في العاشر من شهر شباط سنة 1951، أطل طفل ذكر الى الحياة، وكان أبواه سركيس وبترونلّه بعيني ينتظران طفلة أنثى لتزيّن بيتهما، خاصة وقد رزقا من قبل بثلاثة صبيان هم: أنطوان وجورج وجوزاف.
سركيس، أي والدي، كان يدرز السطيحة بقدميه، وكأنه يحيّك مستقبلاً أنثوياً طال انتظاره، وهو يردد بصوت مسموع: يا سيدة مجدليا أعطني مريم، وهو الاسم الذي سيطلقه على ابنته لو أطلت. ولكن الداية، وكان اسمها (أمانة الخوري) بددت فرحة انتظاره عندما صاحت: إنه ولد.
جميع الآباء في العالم، تغمرهم فرحة عارمة إذا أنجبوا طفلاً، عكس والدي الذي راح يندب حظه العاثر، ويتجه نحو الكنيسة القريبة من بيته، ليعاتب السيدة مريم لأنها لم تعطه مريم.
إذا قلتم انني ابالغ، اسمعوا إذاً: لقد فعل والدي المستحيل من أجل أن تأتيه "مريم"، فما أن علم أن والدتي حامل، حتى أخذها الى أحد الأديرة حيث توجد صخرة، يدّعون أنه اذا مرت إمرأة حامل من قربها، وعلق ثوبها، تنجب طفلة، وإذا لم يعلق تنجب طفلاً، وكم كانت فرحة والدي عظيمة حين علق ثوب أمي، لدرجة جعلته يوزع السكاكر على الاطفال أمام دكان أمه خرستين قبل الولادة بعدة أشهر.
الآن، عرفتم سبب الصدمة التي تعرّض لها بسبب قدومي الى الحياة، لا بل جعل كل العائلة تتعرّض لها، ومن لم يحزن لحزنه قاطعه وابتعد عنه.
ومجدليا، التي ولدت فيها، هي إحدى القرى اللبنانية في قضاء زغرتا في محافظة الشمال. ترتفع عن سطح البحر 91م، وتبعد عن طرابلس 6 كلم، وعن بيروت 86 كلم.
تعتبر من حيث المساحة من أكبر قرى لبنان، حيث تمتد أراضيها الى حدود أقضية عديدة منها طرابلس والضنية والكورة والمنية. يسكنها الآن أكثر من ثلاثين ألف نسمة. وتشتهر ببساتين الزيتون، وبأماكن أثرية عديدة.
وإسم مجدليا ليس حكراً على هذه القرية، بل هناك أيضاً مجدليا في محافظة جبل لبنان، ومجدليا في سوريا قضاء إدلب، ورغم الاسم الموحد بين هذه البلدات الثلاث إلا أن لا رابط عائلي بينها، ولا أدري كيف توحد الاسم، وما السبب في ذلك.
هذه القرية الجميلة التي بدأت أكنى باسمها (إبن مجدليا)، تحتوي على دكان جدتي خرستين، التي كانت تجمع بين ثلاث وزارات هي: البريد، الكهرباء والهاتف، ويديرها بتفانٍ والدي سركيس، فمن يريد الاتصال بالهاتف يومذاك، عليه القدوم الى الدكان، ومن يريد أن يرسل رسالة أو يستلم طرداً بريدياً، عليه أن يأتي إليها أيضاً، إذ لا خدمة هاتفية او بريدية في مجدليا إلا من خلال دكان خرستين.
أما الكهرباء فكان والدي المسؤول عن أخذ عدادات الساعات في بيوت القرية، ومن ثم جباية الاموال وإرسالها الى شركة قاديشا، وليس هذا فحسب بل كان يشرف على مستودع الكهرباء، فإذا انقطعت، عليه أن يعيدها. وأذكر كم من المرات انقطعت الكهرباء في منتصف الليالي الباردة، وكان أبي يسرع الى المستودع ليعيدها، ويسرع خلفه أبناؤه الصغار.
ورغم انشغاله الدائم، لم ينسَ ولو للحظة واحدة مسألة البنت، اذ ظل يمني النفس بتحقيق حلمه، ولكن أنّى له ذلك، فلقد أنجبت أمي طفلين على التوالي ميشال ومرسال، فعلم، عندئذ، أن إرادة الله هي الأقوى.
الآن، تغيّر اسم والدي في القرية، إذ راحوا ينادونه بلقب "بي ست شباب"، ويلقبون أمي "بأم ست شباب"، وبدلاً من أن يحزن على خسارة البنت، راح يعرّم ويتشاوف برجولته، إذ ما من أحد في مجدليا رزق بنصف دزينة شباب على مر التاريخ.
وعائلتي البعينية هذه ممتدة الى بلدان كثيرة، وعدة طوائف، ولكنها، رغم ذلك، تنبع في الأصل من مكان واحد ألا وهو بلدة "مزرعة الشوف"، وبسبب تراكم الأحداث التي حلت بها وبالوطن لبنان، هاجر خطيب البعيني إلى السويداء السورية، ورحل أخوه شعنين البعيني إلى بلدة "رشدبين" الكورة، وهناك تزوج من فتاة مارونية، تبع طائفتها، ليؤسسا معاً عائلة مسيحية، أنجبت ملكون البعيني الذي انتقل للعيش في بلدة "برسا" الكورة، ومن نسله جاء جدي الأكبر يوسف الى بلدة مجدليا زغرتا.
والسؤال الآن، من أين جاء اسم "شعنين" في عائلة درزية؟
تقول الرواية، أنه ولد يوم عيد الشعنينة عند المسيحيين، فما كان من جدنا الأكبر واسمه "يوسف" أيضاً، إلا أن أطلق عليه اسم "شعنين" تيمناً بالعيد.
وتقول الرواية أيضاً، أن أكثر إسم شائع في عائلة بعيني أجمع، الدرزية والمسيحية، هو اسم "يوسف"، حباً وتقديراً وتخليداً لاسم هذا الجد الذي أعطى العالم أشرف وأعظم عائلة تخطت الطائفية البغيضة وتركت بصمة ذهبية على صفحة التاريخ.
وأذكر، وأنا لم أبلغ بعد السادسة من عمري، أن وفداً من آل بعيني "مزرعة الشوف" جاء لزيارتنا محملاً بالهدايا، وكيف كان جدي يبكي وهو يودعهم ويقول:
ـ هؤلاء هم أقربائي.. هؤلاء هم أهلي.
وانقطعت الزيارات، وللأسف، وتباعدت المسافات بين العائلة الواحدة، بسبب الأحداث الأليمة التي سببتها ثورة عام 1958.
**
التدريب العسكري
طفولتي، مرّت دون أن أشعر بها، فلقد كانت ملآنة بالحب والعطف والحنان، ليس من أهلي فحسب، بل من كل أهالي القرية، فلقد كان كل فرد في مجدليا حامياً للأخر، ساهراً على راحته، ناصحاً إياه ليسير في طريق الخير، كي يشرّف اسم مجدليا.
هكذا عشنا كعائلة واحدة، رغم تعدد العائلات والمساكن، أمنا واحدة، ألا وهي سيدة مجدليا، حولها نلتم ومنها نطلب.
سنواتي المدرسية الثلاث الاولى كانت في مدرسة القرية المؤلفة من غرفة واحدة، وبقيت هناك حتى انتهاء ثورة 1958 اللعينة، التي ضيّعت علي عدة سنوات تعليمية بسبب خوف أهلي من إرسالي الى طرابلس.
هناك، أي في الصف الرابع ابتدائي، رأى معلمي أنني أتفوق على جميع رفاقي، فطلب من إدارة المدرسة أن أخضع لشهادة السرتيفيكا قبل سنة من موعدها، وهكذا صار ونجحت بعونه تعالى، لأتخطى الصف الخامس ابتدائي، وانتقل الى المرحلة التكميلية في مدرسة الزاهرية عام 1964.
وهناك أيضاً أحس المعلمون بذكائي، فطلبوا مني أن أخضع لشهادة البريفة قبل سنة، أي في الصف العالي ثالث، ونجحت أيضاً عام 1966. وبذلك أكون قد وفّرت سنتين من حياتي التعليمية، والكثير من المال الذي يجنيه والدي بتعب شديد، أو الذي كان يرسله لنا أخي جورج المهاجر الى أستراليا.
مرحلتي التعليمة الجديدة كانت في ثانوية الحدادين ـ في منطقة أبي سمرا عام 1967، حيث بدأت أخضع للتدريب العسكري، كما كان سائداً في ذلك الوقت، بغية تحضيرنا لاستلام رتبة صف ضابط، عند نهاية الخدمة. وكان يزور الثانوية عسكري برتبة عريف، ليشرح لنا كيفية السير بخطوات ايقاعية مميزة، وطلي وجوهنا وأجسادنا بالوحل، بغية إخفائها عن العدو، ورمي القنابل، وتفكيك البنادق وجمعها. هذه الاشياء كلها تعلمتها وأصبحت خبيراً بها، إلى أن وقعت الكارثة.
ذات يوم اغرمت بفتاة طرابلسية، كانت تنتظر مروري اليومي من تحت شرفتها لتلقي لي بزهرة فل أو قرنفل، ولكثرة إعجابي بها قررت أن تراني بالبذلة السوداء التي اشتريتها بعد نجاحي بشهادة البريفة، فلبستها، وذهبت الى المدرسة والفرحة تغمرني، ولكن ما أن وصلت حتى وجدت جميع الرفاق يرتدون ثيابهم العسكرية الكاكية، وكنت الوحيد الواقف بينهم ببذلة سوداء.
أجل، لقد أنساني الغرام، واجبي العسكري، ولكن ما هم، فالعريف صديقي، وسوف يتغاضى عن الموضوع، وقد تغاضى حقاً، إلى أن وصل جيب يحمل الضابط المسؤول عن كل مدارس التدريب، وبعد تأدية التحية له، تطلع صوبي وصاح:
ـ يا غراب.. تعالَ الى هنا!
فلم أتحرك من مكاني من شدة الخوف، فصرخ مجدداً:
ـ أنت.. أنت.. ايها الغراب الواقف في آخر الصف ببذلة سوداء، تقدّم الى الامام.
اقتربت منه، وعيناي تنظران الى الارض، وأنا أتمتم اسمي ورقمي العسكري.
ـ أتعرف ما جزاء من لا يتقيّد باللباس العسكري أثناء التدريب؟
ـ أ أ أ أنا آسف..
ـ أنظر الى تلك البركة المائية عند أسفل الدرج، آمرك أن تسبح بها أمام رفاقك لتكون عبرة لهم.
وبخطوات بطيئة اقتربت من البركة الملآنة بمياه المطر، لألقي بنفسي بها، فإذا بصوت يجلجل كالرعد:
ـ شربل.. ماذا تفعل؟ انتظر أنا قادمة.
إنها عمتي مادلين شعنين الساكنة قبالة المدرسة تماماُ، أي تبعد عنها أقل من عشرة أمتار، وعندما وصلت رفعت إصبعها بوجه الضابط وقالت:
ـ إذا سبح إبن أخي في هذه البركة ستسبح انت معه. فكّر جيداً واتخذ القرار الصحيح.
ـ ابن أخيك لم يرتدِ ثيابه العسكرية، وهو يعلم أنه يوم تدريب، بل استبدلها، وبكل وقاحة ببذلة سوداء، مع ربطة عنق، وكأنه ذاهب الى جنازة.
ـ يا له من مسكين، فلقد جاء ليريني إياها، فقط ليفرّح قلب عمته، فأين الجريمة في ذلك؟
ـ أرجوك يا عمتي، لا تتدخلي، هذا أمر عسكري ويجب أن أنفذه وإلا سيحولني الى السجن.
ـ إخرس عندما أتكلّم أنا.. أفهمت؟
هنا أصبح وجه الضابط بلون الزعفران، وبدأ العرق يتصبب منه، وقد بدت عليه علامات الحيرة، ماذا يفعل؟ أينفذ الأمر، أم يتغاضى عنه؟. ومئات الطلاب يحدقون به، بانتظار قراره.
وبعد صمت طويل قال:
ـ كرمى لعمتك الفاضلة سأسامحك هذه المرة، شرط أن لا تعيدها.
وما أن فتحت فمي لأشكره، حتى سمعت زلغوطة عمتي، وهي تقترب من الضابط وتقبله على جبينه وتصيح:
ـ ألله يحميك يا وطن.
على طاولة العشاء أخبرت أهلي بما حصل، فقال والدي:
ـ كان على أختي مادلين أن لا تتدخل، فالأمر عسكري وما عليك سوى تنفيذه..
فتمتمت بانكسار شديد:
ـ وطقمي الجديد؟
فصاحت أمي:
ـ كان عليك أن تفكّر قبل أن تقدم على عمل قد تندم عليه. شعور الامومة عندي يقول أن هذا الضابط سوف يلقنك درساً قاسياً كي يرد اعتباره أمام رفاقك الطلاب.
وصدق شعور الأمومة بعد أسبوعين فقط، إذ أخذنا المدرب في يوم ممطر، إلى حقول الزيتون القريبة من منطقة أبي سمرا، كي يشرح لنا عملياً كيفية التمويه من الأعداء، فتحلقنا حول بركة كبيرة من الوحل، وراح كل واحد منا يغمس يديه بالوحل ويضعه حول عينيه، وعلى خديه وجبهته، وبينما كنت أقوم بالتمويه على أكمل وجه، إذ بجزمة رجالية تضغط على ظهري فجأة، وتدفعني بشدة للسباحة من أول البركة حتى نهايتها، وصوت يجلجل كالرعد:
ـ هكذا تكون عملية التمويه يا غنّوج عمتك.
أجل، لقد كان الوحل يغطي جميع أجزاء جسمي، لدرجة لم يسمح لي أي سائق على موقف تاكسي زغرتا ـ التل، بركوب سيارته والذهاب الى مجدليا، مخافة أن لا تتسخ.
سائق واحد أشفق علي، فاقترب مني وقال:
ـ هناك قرب سينما الحمرا توجد بسطة جرائد، إذهب واشترِ جريدة، وافرشها تحتك كي أنقلك الى مجدليا، شرط أن تدفع إجرة راكبين، لأن لا أحد سيركب بجانبك.
وهكذا صار، وعندما مشيت على طريق القرية الرئيسي حتى بدأ الأولاد يركضون حولي ويغنون:
ـ هاشلي بربارة
مع بنات الحارة
حبيبا شو إسمو
الوحل مغطى جسمو
أسود.. يا شحّارا
إلى ان وصلت الى الدكان، فما ان رأتني أمي على هذه الحال، حتى صاحت:
ـ ألم أقل لك.. الوطن لا ينام على ضيم.
أجل، الوطن لا ينام على ضيم، وكذلك عمتي مادلين، التي قررت أن تزور أبناءها في مدينة ملبورن الأسترالية عام 1985، وبعد أن انتهت من تفجير شوقها إليهم، قررت أن تزورني في سيدني، وكنت قد هربت إليها من لبنان أواخر عام 1971، وما أن رأتني حتى أخذتني جانباً وقالت وهي تقبلني بحرارة:
ـ هات 500 دولار.. لا تتأخر..
ـ أكيد، أنت تمزحين معي!
ـ لا، هناك حادثة حصلت معك في ثانوية الحدادين عند درج أبي سمرا، ويجب أن تدفع ثمنها.
ـ أما زلت تذكرين، بعد كل هذه السنين؟
ـ وكيف أنسى.. إدفع.. فلقد أنقذتك من السباحة في مياه وسخة، وأنقذت طقمك الأسود من التلف.
ـ وتريدين 500 دولار ثمناً لتلك الحادثة؟
ـ هذا مع خصومات الضيافة في منزلك.
ودفعت، خوفاً من أن ترفع المبلغ، ولسان حالي يردد:
ـ الضابط لا ينسى، وعمتي أيضاً.
**
أول قصيدة
وكما ذكرت سابقاً، مرّت طفولتي بفرّح غامر، خاصة عندما كنت في التاسعة من عمري، فلقد استقبلت تمثال العذراء، في شهر أيار المريمي، على باب منزلي، بقصيدة، ظل والدي يحتفظ بها إلى أن وافته المنية.
وما أن وقعت بين يديّ، حتى أصبت بالجمود، ورحت أتساءل: لماذا احتفظ والدي بقصيدة ركيكة، كل ما فيها خارج الوزن والقافية، فجاءني الجواب من والدتي:
ـ لأنك ألقيتها بطريقة جميلة جعلت الراهبات يصفقن لك أمام أعين أهالي القرية. ولأنه شعر، وبكل فخر، أن شاعراً قد ولد في بيته.
هنا، بدأت أركّز على الالقاء، كونه يخفي الكثير من الشوائب اللغوية، خاصة وأنا أتدرّج على طريق الشعر.
في ذلك اليوم بالذات، وبعد أن دخل التمثال المقدس الى بيتي، قررت أن أزور الكنيسة لأشكر ربي على نعمه الكثيرة، فوجدت بائعاً متجولاً يجلس في ساحتها، ليبيع الأطفال أنواعاً مختلفة من السكاكر. وما هي إلا لحظات حتى ناداني أحد الجيران وسلمني ساندويشاً حشته أمي باللحم جيداً، تكريماً لي على القصيدة، وكي لا أجوع طوال اليوم، فجلست بقرب البائع وأنا التهمه بصمت، فإذا به يتطلّع بي ويقول:
ـ هل بإمكانك أن تأكله لوحدك، وأنت طفل صغير؟.
وللحال توقفت اللقمة في حلقي ورحت ارتجف مثل وريقة خريفية، مما لفت انتباه جارة الكنيسة ماتيلدا الخوري، فأسرعت إلي، ووضعت إصبعها في فمي، وراحت تنظفه مما علق به من طعام، هنا، بدأت أعود الى وعيي، فنظرت حولي فلم أجد البائع، فسألت ماتيلدا عنه فأخبرتني أنه قد فرّ هارباً وهو يصيح:
ـ لقد أصبته بالعين.
من يومها وأنا أؤمن بصيبة العين، وأخاف منها كثيراً، كيف لا، وقد منعوا عن عينيّ النوم لعدة ايام، كي لا أصاب مجدداً بالإغماء، أو الموت لا سمح الله. وكانت بعض النسوة يتبادلن السهر علي، وهنّ يصببن الرصاص فوق رأسي، ويثرثرنَ:
ـ أنظرنَ، إنها عين.
**
بيتنا
القناعة كنز لا يفنى، رحم الله من قال هذا المثل الصادق، لأن القناعة تجلّت في بيتنا تماماً، إذ كانت عائلتي المؤلفة من عشرة أشخاص تعيش في غرفتين فقط: أبي، أمي، وإخوتي في البيت، وجدي وجدتي في الدكان الصغير الموجود قبالة البيت، حيث يشمخ تمثالي الآن.
وقد تتعجبون إذا أخبرتكم أننا عشنا طوال الوقت بدون حمّام أو مطبخ، أو ماء، ومع ذلك لم نتأفف بل كنا نأتي بالماء من سبيل القرية او من عند جيراننا الأوفياء أنطونيوس ووديعة أنيسة، كما كنا نستعمل حمامهم الموجود تحت الدرج لقضاء حاجتنا عند الضرورة، دون أن يتأففوا أو يتذمروا أو يطالبوا بدفع تكاليف ما نحتاج اليه من مياه.
هكذا كانت القرية، بيت واحد لكل أبنائها، نتشاطر خيراتها فيما بيننا، دون أن نمنن بعضنا البعض.
هنا وجب علي أن أذكر أن باب بيتنا لا يقفل، اي ليس له قفل أو سكرة حتى ولا مفتاح، وكنا ننام والباب مشرع طوال الليل، لا بل كانت أمي تنام ورأسها ملقى على مدخله دون خوف، وكيف تخاف وأهالي القرية يحرسون منازل بعضهم البعض، والويل لمن يبغي بهم شراً.
بابنا كان على شكل قنطرة، ارتفاعه أقل من متر ونصف، بناه أجدادنا بهذا الارتفاع كي يمنعوا أحصنة الجيش العثماني من الدخول بحثاً عن المؤن الغذائية أو الرجال المطلوبين لسفر برلك. وفي حال هبت الرياح العاتية، وانهمرت الامطار الغزيرة، كنا نسنده بحجر من الداخل.
أما سطح البيت فكان مصنوعاً من الحوّارة، لذلك كانت الدلفة تزورنا كلما اشتد المطر، وكنا نتسابق للصعود الى السطح مع والدي كي نحدله بمحدلة ثقيلة، ترهقنا كثيراً ونحن نجرها.
ورغم غضب والدتي من الدلفة، كانت الفرحة تغمرنا أنا وإخوتي، كوننا سننتقل الى النوم في القبو على فراش واحد، رأساً على عقب، ثلاثة من ميل، وثلاثة من الميل الآخر للفراش.
هكذا كبرنا، وهكذا توطدت محبتنا لبعضنا البعض، حتى بعد وفاة الوالدين في أستراليا، تمسكنا ببعضنا البعض، كي لا تشتت شملنا رياح الغربة العاتية، المليئة بالمأسي العائلية، التي لم ترحم أماً ولا أباً ولا طفلاً.
وجود ستة شباب في بيت واحد، بإمكانه أن يوفّر الكثير من المال على الأهل، فمثلاً، ما أن تطول قامة أخي الأكبر أنطوان، حتى تهدي ثيابه وأحذيته لأخي جورج، وهكذا دواليك إلى أن ينتهي عرض الازياء الرجالية عند أخي الأصغر مرسال.
أما إذا تكلّمنا عن التحصيل العلمي عند إخوتي، فلسوف يلفني خجل شديد وأنا أخبركم أن أخي جوزاف هو الوحيد الذي أكمل دراسته، الى ان تخرّج مراقباً صحياً، عمل لعدة سنوات في وزارة الصحة اللبنانية، إلى أن رمته الحرب اللبنانية في سيدني أستراليا، حاملاً من وطنه طفلة صغيرة تدعى ماريان، هي الوحيدة بين أحفاد العائلة التي ولدت في لبنان.
وهذا لا يعني أن إخوتي الأربعة الباقون لم يبدعوا في المهن التي أتقنوها، بل أنهم تخطّوا مرحلة الابداع ليصلوا الى الاحتراف.
أنطوان، أصبح لحاماً كهربائياً تشهد له الشركات الكبرى في لبنان وأستراليا.
جورج، والحق أقول، فنان في كل عمل قام به، إنه أشبه ما يكون بمخترع، لا بل كان المرجع الوحيد الآمن لحل مشاكل العائلة التقنية مهما كانت.
ميشال، امتهن مهنة الحدادة، إلى ان هاجر الى مدينة ملبورن، هناك بدأ بصنع الكرافانات على كافة أشكالها.
أخيراً، صغير البيت، مرسال، فلقد أصبح نجاراً تشهد له المنازل، وخاصة منزلي الذي بناه خشبة خشبة.
هؤلاء الاربعة كانوا مصدر تمويلي أنا وأخي جوزاف، فلولاهم لما تمكنا من مواصلة تعليمنا، فالمال الذي يجنونه من أتعابهم، كانوا يرمونه في حضن جدتي خرستين، وزيرة مالية العائلة، يومذاك.
**
مكتبة خاصة
بدأت الكتابة، كما ذكرت سابقاً، في التاسعة من عمري، وإن كانت القصيدة التي استقبلت بها السيدة العذراء، ركيكة حطمت الموسيقى والاوزان الشعرية، إلا أنها كانت تبشّر بعطاء أوفر.
ولكي أبدع أكثر في الكتابة، بدأت بتأسيس مكتبة خاصة بي، جمعت بها الكتير من الدواوين والقصص، التي قرأتها عن بكرة أبيها، مرة، ومرتين إلى أن عرفت كيف تصاغ الجمل، وكيف تتراقص الموسيقى بين حروفها. فبدأت أكتب بتأنٍ، لا بل كنت أراجع ما أكتب، وأعرضه على عدة مثقفين في مجدليا قبل أن أفكّر بالنشر.
وبعد الترحيب الشديد بسحر أبياتي، وتناغم عباراتي، قررت أن أختار بعض الصحف اللبنانية لنشر نتاجي الشعري، فوقع اختياري على جريدتيْ الانوار والجمهورية، ليس بسبب انتشارهما، بل لأن الشاعر يونس الابن كان يشرف على الصفحة الثقافية بالجريدتين معاً.
وجود يونس الابن هناك، كان مصدر اطمئنان لي، فكل قصيدة لا ينشرها سأرميها حتماً في النار، ولكنه، ولحسن حظي، كان ينشر، وباحترام، كل ما أرسل.
أما المقالات النثرية، فكنت أرسلها الى مجلة الدبور، وكان ابن المكرزل، وأعتقد أن اسمه الاول فؤاد، كان يهتم بها، وينشرها بشكل جميل، كي يرغّب القارىء بالاطلاع عليها.
وبعد أن أصبحت مشهوراً بعض الشيء، رحت أزود ملحق النهار الاسبوعي بقصائدي العامية المنضوية تحت راية الحداثة، مثل قصيدتي (جابب غيّر هالكون ومش قادر) التي نشرتها بالالوان.
وبعد حرب النكسة عام 1967، بدأت بنشر (يوميّات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط) وقد اهتمت بنشرها كاملة مجلة (الهدف) التي كان يشرف عليها الأديب الفلسطيني غسان كنفاني.
وفي عام 1968، أي في السابعة عشرة من عمري، قررت نشر أول ديوان لي بعنوان (مراهقة)، ولكن من اين لي المال لأنفّذ رغبتي؟
عمي الأكبر بطرس بعيني، شقيق جدي طنسا، كان مغرماً بشعري، وكنت كلما زرته في مسكنه الواقع في شارع بدارو، قرب المتحف الوطني في بيروت، أسمعه بعض القصائد، وكان يعرّف النواب اللبنانيين الذين يسكنون في نفس البناية، بإبن أخيه الشاعر.
وليس هذا فحسب بل كان "يمشورني" بسيارته "البويك"، على الطريق المؤدي الى مدينة صيدا، وكنت اشعر انه يطيل الطريق كي أسمعه كمية أكبر من القصائد.
وفجأة، أوقف سيارته على جانب الطريق، وقال:
ـ شربل.. أنت شاعر.. وعائلة بعيني وبلدتك مجدليا ستفتخران بك، وسترفع اسمهما عالياً، فلماذا لا تنشر هذه القصائد في كتاب؟
ـ ومن أين لي المال يا عمي؟ لقد عرضت الكتاب على صاحب مطبعة الغد في طرابلس، فقال لي ان كلفة طبع 500 نسخة، ستكون بحدود 500 ليرة لبنانية.
ـ إطبع الكتاب، وأنا سأدفع كلفته.
وطبع (مراهقة) عام 1968، وأحدث ضجة إعلامية كبرى بسبب إباحية بعض قصائده، التي أعجب بها نزار قباني، حين زرته في مكتبه الواقع في بناية العازرية ـ بيروت، وأهديته الكتاب، فقال بعد ان قرأ بعض القصائد:
ـ إسمع يا شربل، أنت شاعر، ولكن إياك أن تعمل بنصيحة سعيد عقل، الذي يدعو لاحلال العامية مكان الفصحى. العامية يقرأها ثلاثة ملايين شخص، أما الفصحى فيقرأها مئات الملايين، فأيهما تختار؟
ـ ولكن هناك مشكلة يا أستاذ نزار.
ـ ما هي؟
ـ إذا كتبت بالعامية قد أبزّ العديد من الشعراء العاميين، ولكن اذا كتبت بالفصحى أنى لي أن أتخطى إبداع وعظمة نزار قباني، ولسوف أراوح مكاني.
أعجب نزار بما قلت، ودعاني لتناول الغداء، كي لا أعود الى الشمال جائعاً على حسب تعبيره.
وبعد سنوات طويلة توطدت صداقتي مع نزار، وبدأنا نتبادل الرسائل بين لندن وسيدني، وذات يوم وأنا أكلّمه بالهاتف، ذكرت له ما حصل بيني وبينه يوم زرته في مكتبه عام 1968، وما النصيحة التي قدمها لي وأنا أهديه ديواني "مراهقة"، وكيف غدّاني كي لا أرجع الى مجدليا جائعاً، فتنهد وقال:
ـ أنا آسف يا شربل، لندن أنستني الكثير من الذكريات الجميلة، ولقد نسيت تماماً تلك الزيارة.
وعندما منحته رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران العالمية، طلبتُ منه أن يحلّ علي ضيفاً مكرّماً في سيدني، ولكنه اعتذر عن المجيء بسبب بعد المسافة، خاصة وأن الاطباء قد منعوه من السفر.
وعندما طلبت منه الرابطة إرسال كلمة، وافق شرط أن يلقيها ويستلم الجائزة عنه صديقه شربل بعيني.
**
مراهقة
مكتبة (الثقافة) في طرابلس عرضت ديوان (مراهقة) على واجهتها الامامية بشكل ملفت للنظر، فلقد كان صاحب المكتبة مخائيل فرح شاعراً من الطراز الاول يجتمع عنده كبار النثر والشعر، وكنت أنا المراهق الصغير بينهم، المجبر على أن ينادي كل واحد منهم بكلمة (عمي)، احتراماً لهم.
الكتاب، كما ذكرت، أحدث ضجة كبرى، فلقد هاجمه العديد من النقّاد ورجال الدين، وطالبوا أولياء الامور بمنع بناتهم وأبنائهم من اقتنائه.
وبدلاً من أن يؤثر الهجوم على بيع الكتاب، ضاعف من اهتمام الجيل الصاعد به، وكان الشاعر مخائيل فرح يطلب مني المزيد من النسخ كي يعرضها، حتى أضحى الكتاب الاكثر مبيعاً في مكتبته. وراح زواره الكبار ينادونني بالاستاذ شربل، وباتوا يرفضون أن أناديهم بكلمة (عمي)، بل بأسمائهم كما هي.
ولأن الهجوم على (مراهقة) كان شديداً ومتنوعاً، وجدت أن لا انشر المقالات هنا، طالما أنها نشرت من قبل في موسوعة (شربل بعيني بأقلامهم) للأديب كلارك بعيني.
ولكن مقالاً كتبه "توني سابا" في مجلة "الساخر، العدد السادس، حزيران 1970" قد آذاني نفسياً، إذ كيف بمفكر مثل (جان الداية) وهذا اسمه الحقيقي، يكتب ما كتب، فلو عاش الى يومنا هذا، ورأى ما نرى، على مواقع التواصل الاجتماعي لسخر من نفسه، واليكم ما كتب:
"المثل الدارج يقول: ألله بيبلي وبيعين.
وفي السطور التالية بعض تطبيقاته اللبنانية في حقل الشعر:
بلانا بغزل سيء سخيف زمخشري لرجل غبي قليل الذوق اسمه نزار قباني صاحب هذا البيت الذي لا معنى له:
أخاف أن أقول للتي أحبها أحبّها
فالخمرُ في جرارها تخسر شيئاً عندما نصبّها
واعاننا بالغزل الارستقراطي الرفيع ومنه هذه القصور لشربل بعيني (وينك يا مار شربل)،:
هالحلمة اللي مشوبي
يا ما قلوب مدوبي
ومكتوب حدا ع النهد
لا تلمسوني مكهربي
حلمتك يا زغيّرَه
متعجرفه ومتكبّره
مين خبرا.. هيي الدني
يا زغيرتي والآخره
ما أطيبا هالفستقه
وهالفستقه يا مراهقه
عم تنعبد بهالدني
متل الاله الخالقا
أخبروني ان مسرحَ فاروق بحاجة الى شاعر (ليقف) بين هلالين، ويلقي بين المَشاهد قصيدةً يُبقي فيها الحضور على اتصال بما يُقدَّم من برامج رائعة. هل تذهب يا شربل ام ان شعرَك لا ينفعُ في الوقوف مثله في (القرفصة) او (النوم).
ولو كان موجوداً في مكتب "نزار قبّاني" يوم أهديته الكتاب، وسمع إطراءه لي كشاعر، وللقصائد الجريئة، التي كان عليّ أن أكتبها بالفصحى ليقرأها مئات الملايين في العالم العربي، لسخر من نفسه أكثر فأكثر.
مقاله هذا، شجّع بعض شبّان مجدليا أن يستهجنوا ما جاء في الكتاب من اباحية مقيتة، بنظرهم طبعاً، وقرروا أن يشتكوا لكاهن القرية الأب بيّوس بعيني، فحملوا اليه "مراهقة"، وصاحوا:
ـ أنظر يا أبانا، هذا الكتاب الاباحي الوسخ، من تأليف إبن القندلفت سركيس بعيني، هو يخدم الكنيسة وابنه يشجّع على الرذيلة.
ومن دون أي تردد "نتش" الكتاب من بين أيديهم، وقال:
ـ سأقرأه أولاً، وأقرر ثانياً..
وبعد عدة أيام أعاد الكتاب الى أصحابه، وهو يضحك ويقول:
ـ ماذا تريدون أن يكتب أبن السابعة عشرة من عمره.. إنه في سن المراهقة، وهذا ما يخطر ببال كل مراهق.
كم كان ذكياً ومتفهماً هذا الكاهن، فلقد علم أن الله خلق الانسان ليتطوّر عقلياً وجسديا، ففي فترة المراهقة يأسره التفكير بالجنس، وفي فترة الرجولة يسرقه التفكير العائلي، وفي فترة الكهولة يبدأ باللجوء الى الله، كي يكفّر عن خطاياه في فترتيْ المراهقة والرجولة.
في اليوبيل الفضي لصدور "مراهقة" عام 1993، اجتمعت العديد من الجمعيات الثقافية والاجتماعية في سيدني أستراليا للإحتفاء به.
وفي اليوبيل الذهبي عام 2018، احتفل "لقاء الاربعاء في سيدني" بصدوره، بعد أن زيّن القاعة بالالوان الذهبية.
وعندما زارنا في سيدني عام 2018، كاهن رعية مجدليا الاب عبّود جبرايل حمل إليّ مخطوطة "مراهقة"، ففرحت بها أشد الفرح، وأنقذت منها قصائد عديدة لم تنشر من قبل.
فرحتي لم تكن بالمخطوطة، بل باهتمام الاب جبرايل بها وحفظها في مكتبته لاكثر من نصف قرن، وهذا دليل واضح على احترامه وتقديره لأدبي.
**
أستاذ جيد
قد تصبح شاعراً بالوراثة، أو بالفطرة، ولكنك لن تصبح أديباً إلا إذا تتلمذت على يد أستاذ جيد.
ونجيب الكيال، ابن طرابلس البار، هو من حببّني باللغة العربية، وبالشعر العربي، وبالآوزان الخليلية.
أجل، فلقد كان معلماً مرحاُ في الصفوف التكميلية في مدرسة الزاهرية، وكنا ننتظر بفرح قدومه الى الصف.
وذات مرة، قال لنا:
ـ تعالوا أحفظكم قصيدة أبي النواس "ألا هبّوا الى الكرخ" بساعة واحدة، وعندما رأى التعجّب على وجوهنا قال:
ـ تعالوا امسكوا بخصري، لنلف الصف كالأفعى، وأنتم ترددون ورائي أبيات القصيدة.
وراح يقفز أمامنا، بإيقاع جميل، ونحن نسير وراءه، ونصيح:
ـ ألا هبّوا الى الكرخ
إلى حانوت خمار
إِلى صَهباءَ كَالمِسكِ
لَدى جَونَةِ عَطّارِ
وَبُستانٍ لَهُ نَهرٌ
لَدى نَخلٍ وَأَشجارِ
فَأُطعِمُكُم بِهِ لَحماً
مِنَ الوَحشِ وَأَطيارِ
فَإِن أَحبَبتُمُ لَهواً
أَتَيناكُم بِزَمّارِ
وَإِن أَحبَبتُمُ وَصلاً
فَهَذي رَبَّةُ الدارِ
إلى أن انتهت حصته التعليمية، فقال:
ـ غداً، ستسمعون لي القصيدة عن ظهر قلب.
وليس هذا فحسب، بل كان يستعمل الطريقة ذاتها مع كل قصيدة صعبة الحفظ والفهم.
هنا، بدأت تنهار أمامي قواعد اللغة العربية، وتعلن استسلامها لي، وهذا ما لاحظه جليل بحليس، أستاذ التاريخ والجغرافيا، في المدرسة ذاتها، فراح يتودد إلي، ويسألني إن كان بالامكان مراجعة لغة ما يؤلف من كتب، قبل طباعتها.
وبدلاً من أن أقضي فرصة الظهر في الملعب مع رفاقي، كنت أقضيها بجانب معلمي جليل بحليس. هو يكتب وأنا أراجع ما يكتب، بتأنٍ زائد، كي لا تهبط أسهمي اللغوية عنده.
جليل بحليس سآتي على ذكره، عندما أخبركم عن قصصي مع أمي، لذلك سأكتفي بما ذكرت الآن.
ولولا إلمامي باللغة العربية، لما طلبت مني الأخت كونستانس الباشا، أن أشرف على تعليمها في معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك عام 1980.
كانت الحرب الأهلية على أشدها في لبنان، وكان من الصعب الحصول على كتب تغطي حاجة المدرسة سنوياً، فما كان مني إلا أن بدأت بإعداد الكتب لجميع المراحل التعايمية الابتدائية، وبعد عرضها على وزارة التعليم في ولاية نيو ساوث ويلز، تبنتها وطبعتها ووزعتها على المدارس مجاناً.
وهذا الفضل يعود لمعلمي نجيب الكيال، وليبقَ ذكره مخلداً.
**
قصائد مبعثرة
تهافُتُ الجيل الصاعد على شراء "مراهقة"، وفّر لي بعض المال، فقررت أن أنشر عام 1970، كتيباً بعنوان "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة"، حذّرت به من وقوع الحرب الطائفية، التي قضت على الانسان والبنيان في لبنان. فكتبت:
الخراب يزحف نحو المدينة
يخترق جدار الصمت والسكينة
والطيور الشاردة
في الليالي الباردة
ترتل التراتيل الحزينة
كما كتبت:
الزعيم، الزعيم، الزعيم
شرارة تطايرت من الجحيم
فألهبت جنائن النعيم
وهذا ما حصل بعد سنوات قليلة من صدور الكتيب، ورغم التنبيه الصادق لتجنب الفتنة، بدأت التهديدات تصلني، وترهب قلب أمي، فلقد فاجأنا الأب شربل ليشع، ابن مجدليا ورئيس دير بصرما، بزيارة ليلية كي لا يراه أحد، وقال لأبي وأمي:
ـ إذا لم يتوقّف ابنكم عن كتاباته الثورية سيرمونه في البئر.
فقالت أمي بصوت مرتجف:
ـ من أين جاءك هذا التحذير يا أبانا.
ـ من مصدر موثوق.. وما على شربل سوى الانتباه.
هنا قرر والدي أن يحجب عني التسهيلات البريدية والهاتفية، كي لا أراسل الصحف والمجلات البيروتية، وكي لا أتصل بها.
أجل، لقد ضيّق علي الخناق حقاً، ولم يعد بإمكاني استعمال الطوابع البريدية، أو إجراء مكالمات هاتفية مجانية، وهذا ما كان يوفّر عليّ مالاً لا أملكه، فقررت أن أعطي دروساً خصوصية لمن يريد من تلامذة القرية، مقابل 20 ليرة في الشهر، وقد لا تصدقون إذا أخبرتكم أنني التقيت عام 2023، أي بعد أكثر من نصف قرن، بإحدى تلميذاتي، فلقد اقتربت مني في حفل إزاحة الستار عن تمثالي، وقالت لي:
ـ أتتذكرني يا معلمي؟
ـ لا، من أنتِ؟
ـ نورما الحاج، تلك الفتاة الصغيرة، التي رفضت مدرستها أن تقدمها لشهادة السرتفيكا، بسبب علاماتها المتدنية، فإذا بوالدتي تتفق معك على إعطائي دروساً إضافية، وتقدمت الى الشهادة بطلب شخصي ونجحت بفضلك أنت، ورسبت جميع رفيقاتي وللأسف.
ـ أجل، أجل، تذكرتك..
ـ أنا لا أنساك ما حييت، وقد أتيت خصيصاً الى هذا الاحتفال لأصرخ بأعلى صوتي: شربل بعيني معلمي أنا.
كانت تتكلّم وكل من حولنا ينصت اليها، فشكرتها على وفائها النادر لمعلم أعطاها دروساً خصوصية، وأنجحها بشهادة السرتفيكا، فحملته في قلبها ذكرى لا تمحى رغم مرور السنبن.
الليرات القليلة التي كنت أجنيها من التعليم الخصوصي، لم تكن تكفي ثمن حذاء جديد، فخطرت على بالي فكرة الحكواتي، ذاك الذي يلقي القصص على مسامع الناس مقابل بعض الدراهم، فقلت لجدتي:
ـ عندما نجتمع حولك في الدكان قرب موقد النار، سأخبرك أجمل قصة كتبتها.
فوافقت دون تردد، لا بل طلبت مني أن أدعو أبناء وبنات عمي باخوس كي يستمعوا إليها.
وعندما التم شمل العائلة في المساء، بدأت قصتي بتلك العبارة الشهيرة (كان يا ما كان في أقدم الازمان) إلى أن وصلت بعد ساعة من الالقاء، الى مشهد مؤثّر ومؤلم فتوقفت عن السرد، وبدأت أتثاءب وأفرك عينيّ، واتمتم بصوت منخفض:
ـ تصبحون على خير.. لقد تعبت.
فما كان من جدتي إلا أن نكزتني بعصاها وصاحت:
ـ أكمل القصة، حرام أن تترك البطل في موقف حرج كهذا.
ـ سامحيني يا جدتي.. لقد نعست وأريد أن أنام.
ـ سأعطيك ليرة إذا أكملت.
ـ لن أكمل بأقل من ليرتين.
فسحبت من جيبها ليرتين ورمتهما باتجاهي وهي تصرخ:
ـ خذ، وأكمل.
وراحت قصصي الارتجالية تزيّن سهرات دكان جدتي، وبدأت الليرات تتكدّس في جيبي، بغية الذهاب الى مدينة زغرتا، وإرسال قصائدي الى الصحف والمجلات من مكتب بريدها، متخطياً بذلك عقوبات والدي.
**
حلال المشاكل
بقيت على هذه الحال إلى أن توظفت كسكرتير وأمين صندوق وحلاّل مشاكل في بلدية مجدليا، إيام الرئيس فيليكس بعيني، وبدأت أتلقى راتباً شهرياً قدره مئة ليرة لبنانية.
وقبل أن أحصل على هذه الوظيفة، طلبت مني الحكومة أن أرهن بيتاً، يكون ضمانة لها في حال ارتكبت سرقة، كما يحصل دائماً في دوائر الدولة، فوافقت جدتي على أن يكون دكانها موضع رهن، فأرسلوا إلينا مخمناً أقطع، أي انه يحمل عاهة في إحدى يديه، فهمس شيئاً في اذن جدتي، عرفت فيما بعد أنه قال لها:
ـ الدكان لا يصلح كرهن، ولكني سأحل المسألة لقاء خمسين ليرة.
وما أن بدأ عملية التخمين، حتى نادتني جدتي وقالت:
ـ خذ هذه وضعها في يده وهو يركب السيارة.
تطلعت بالخمسين ليرة وصحت:
ـ أيريد رشوة؟
ـ بلادنا يحكمها الفاسدون يا بني، ولهذا يريدون رهناً، لأنك بنظرهم ستكون فاسداً مثلهم.
ـ لن أعطه الخمسين، وسأشتكي عليه.
ـ إذا أردت الوظيفة اصمت وضعها في يده، وإلا، في حال فتحت فمك، سيدعي بأنك عرضت عليه رشوة وستدخل السجن. هو قوي وانت ضعيف، فما من موظف في هذه البلاد إلا وظهره مسنود على زعيم.
وما أن انتهى من عملية التخمين الكاذب، حتى اتجه نحو سيارته، وهو ينظر الى الخمسين ليرة التي أحملها. فتح بابها، وانتظر قليلاً، وهو يمد يده السليمة، فاقتربت منه كالخائف وقلت:
ـ هناك من يصورك، قد سيارتك بسرعة، وإلا سيتهمونك بتلقي الرشوة.
تطلع ذات اليمين وذات اليسار بحذر، فرأى مجموعة من الجيران يقفون على شرفات منازلهم، فركب سيارته والحسرة بادية على وجهه، أما أنا فقد أعدت الخمسين الى جيب جدتي، وبدلاً من أن تفرح راحت تصرخ:
ـ يا بترونله، ابنك المجنون خسر الوظيفة.
وانتظرت النتيجة، هل سيكون التخمين لصالحي؟ هل أخفت هذا الموظف الفاسد بكذبتي البيضاء؟ وبعد أسبوع من الانتظار الممل، جاءت النتيجة إيجابية.
وأعتقد أن جنوني الثوري بدأ من هنا، فلقد قررت أن لا أصمت، فالدولة التي يديرها الفاسدون، لن تصبح، لا الآن ولا غداً، موطناً صالحاً للإنسان.
وكما قلت، كان الراتب الشهري جيد جداً، في ذلك الوقت، مما جعلني أتخلّى عن مهنة الحكواتي في دكان جدتي، وبدأت أسافر الى بيروت، وأزور مبنى الاذاعة اللبنانية، وأكتب بعض الاغنيات الطفولية لبرنامج (صديقي الصغير)، وبدأت أشتري الثياب الخاصة بي، بعد أن كنت أرتدي ثياب إخوتي الذين سبقوني في أعمارهم.
وبعد فترة وجيزة أصبحت عن حق حلال المشاكل، فكل إشكال يحدث في القرية عليّ أن أتدخل وأحلّه.
وإن أنسى لا أنسى عركة نواطير الزيتون، وإشهارهم البواريد على بعضهم البعض: عمي باخوس بعيني، أنطونيوس البشحاري وسليم الحاماتي، فما كان مني إلا أن جمعتهم في مكتب البلدية، أنا الشاب اليافع، وبدأت أصغي إلى كل واحد منهم وهو يحكي عن مشكلته مع باقي النواطير، وأنا أدون بعض الملاحظات على ورقة، إلى أن أنتهوا من قصصهم، فقلت وأنا أصفق لهم:
ـ حماكم الله، فكل ما قلتموه يصب في مصلحة أصحاب حقول الزيتون. كلكم على حق، ولهذا سأخبر رئيس البلدية والاعضاء كي يقدموا الشكر لكم لتفانيكم في العمل.
بهتوا، وراحوا يتطلعون ببعضهم البعض، والحيرة تتملكهم، فقلت في نفسي: اغتنم الفرصة يا شربل، فوقفت وقلت:
ـ دعوني أصافح أعظم النواطير الذين عرفتهم مجدليا.
فوقفوا، وصافحوني، والدهشة تعلو وجوههم، فقلت:
ـ لقد أتيت بالكاميرا كي ألتقت صورة لكم وأنتم تتصافحون، ما رأيكم؟
وبدلاً من أن يتصافحوا، راحوا يقبلون بعضهم البعض، ويضحكون ويشبكون الايدي، ويخرجون من المكتب البلدي، دون التقاط الصورة التذكارية، فصرخت:
ـ إلى أين يا أوادم، لقد نسيتم الصورة.
وبسبب عملي، وجدت أن البلدية لا يمكنها أن تحلّ جميع الاعمال بإمكانيات ضئيلة، خصوصاً في الأبنية الخاصة، كالكنائس والاديرة وغيرها، فقررت إنشاء جمعية سريّة أسميتها (جمعية مكافحة الاهمال)، كان من أفرادها: أخي جوزاف سركيس بعيني، وميشال الياس شعنين، وكلارك الخوري بعيني، وميشال الياس عيسى، وكان أول عمل قمنا به هو إضاءة سطح الكنيسة، بإشراف الكهربائي ميشال شعنين، كما قمنا بتنظيف ساحة دير مار الياس قبيل عيده بيوم واحد، وكدنا نسبب بحريق هائل لأشجار الزيتون المحيطة بالدير لولا العناية الالهية.
كما أن الجمعية ساهمت كثيراً في إنجاح الحفل الذي أقيم لبناء مقابر القرية قرب دير مار الياس. والتحضير لأكبر مهرجان رياضي، تخلله سباق الحمير، والدراجات، والركض على أنواعه، ولقد شارك فيه المئات من شباب وصبايا وأطفال مجدليا.
ولكي تنجح جمعية مكافحة الاهمال، وتبقى أعمالها سرية، وزعنا المهام على كل واحد منا، فكنت أقوم بكتابة وطباعة المناشير التي تفضح الاهمال، وكان أخي جوزاف يعلّقها بالسر على باب الكنيسة، أو على عواميد الكهرباء في القرية، وكانت مهمة ميشال عيسى السير في الشوارع وإخبارنا بما يرى من اهمال، أما كلارك فكانت مهمته مراقبة أخي جوزاف وهو يعلّق المناشير كي ينذره إذا مر أحد من قربه، وبقيت عملية تنفيذ المشاريع ملقاة على كاهل ميشال شعنين. هذا وقد أقسمنا جميعاً أن لا نخبر أحداً، حتى أهلنا، عن هذه الجمعية، إلى أن توافينا المنية، وقد رحلوا جميعاً ولم يبقَ إلا أنا وأخي جوزاف.
**
أمسية شعرية
الشهرة الأدبية بدأت تدق على بابي، وبدأ إسمي ينتشر في الاوساط الادبية، وأنا لم أكمل الثامنة عشرة من عمري.
في طرابلس التقيت بالفنان شربل نعيمي، الذي دعاني لحضور إحدى مسرحياته، فتوطدت بيننا صداقة اخوية، ورحت أتعلم منه كيفية التمثيل والاخراج، إلى أن نفذّت ما تعلمت في حفل أقمته في ملعب مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات في مجدليا عام 1970، بحضور رسمي وشعبي ضخم.
وقد تضمن الحفل مسرحيات مضحكة، كتبتها وأخرجتها، ومثلها العديد من شباب وصبايا القرية، فجمعنا من جراء ذلك مبلغاً محترماً من المال قدمناه لكاهن الرعية الأب بيوس بعيني، من أجل بناء مقابر جديدة قرب دير مار الياس.
وكان الاعلام يخلط دائماً بين إسمَيْ: شربل بعيني وشربل نعيمي، وبدلاً من أن يغيظنا هذا الخلط، كنا نضحك ونفرح له.
هذه الخبرة المسرحية التي اكتسبتها منه، ساعدتني كثيراً في كتابة وإخراج 14 مسرحية للاطفال في سيدني، وكانت أعمارهم تتراوح بين السادسة والحادية عشرة، وكان عددهم في كل مسرحية يتراوح بين 300 إلى 600 تلميذ من معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك.
ولتعلموا مدى نجاحي مع الاطفال، اعترف الفنان القدير دريد لحام عندما شاهد مسرحية "ضيعة الأشباح 1990"، ان معظم وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي لن تأتي بمثلها.
ولسوف آتي لاحقاً على هذه الفترة من عمري، التي قضيتها في المعهد. لذلك سأعود إلى طرابلس، حيث التقيت أيضاً بالصديق حسين مواس، وكان، على ما أعتقد، منضوياً أو مشجعاً لحركة 24 تشرين، التابعة للزعيم الطرابلسي فاروق المقدم، فأخبرني، ذات يوم، أن الاتحاد الطلابي الثوري التابع للحركة، يدعوني لإلقاء أمسية شعرية في 25 نيسان عام 1970، فوافقت دون تفكير، إذ انها المرة الأولى التي أدعى بها لإلقاء شعري.
وفي الوقت المحدد ذهبت الى مركز الحركة برفقة أخي جوزاف، والجار فرج ضوميط، فوجدت جمهوراً كبيراً بانتظاري، وكانت القاعة مقسّمة الى قسمين، القسم الاول مسقوف، والقسم الثاني بلا سقف، أي أشبه ما يكون بشرفة واسعة.
وبعد أن قدمني حسين مواس للجمهور، بدأت بإلقاء قصائد (يوميات مراسل أجنبي في الشرق الاوسط)، التي استمرت لأكثر من ساعة، والتصفيق يتواصل إثر كل مقطع، إلى أن قلت عن القضية الفلسطينية:
لم يقتلوا طفلاً إخواني
أعرفهم حتماً أعرفهم
فالرحمة هم
والرأفة هم
وليسمعْ كل إنسانِ
لولا عدالة ثورتهم
لفقدت بالعدل إيماني
فانهمر الرصاص كزخات المطر إعجاباً بالقصيدة، وكاد أن يتوقف قلبي من شدة الخوف، لأنني حسبت ان الرصاص موجّه نحوي، ولم يتوقفوا عن الابتهاج الرصاصي، إلا بعد أن أمرهم عبد الرحمن المقدم، شقيق فاروق، بالتوقف.
ومن خوفهم علي، اصطحبتني مجموعة من شباب الحركة المسلحين، الى موقف تاكسي زغرتا ـ التل، ولم يتركوا المكان حتى غادرت السيارة التي تقلني الموقف.
هذا الرصاص لم يصبني جسدياً، ولكنه أصابني نفسياً، إذ بدأ التهديد برميي في البئر يتزايد، إلى أن بلغ ذروته بعد أن ألقيت بعض قصائدي في مخيم البداوي، بحضور القائد الفلسطيني ياسر عرفات، فقلت يومذاك مرحباً به:
أبو عمار أتي
صاح طفل في المخيّم
وتبسّم..
كل من في الساحة الكبرى تبسّم
نسوة يحملنَ أطفال الغدِ
وشيوخ ذاقوا ظلم المعتدي
وليوثٌ لبسوا الثوب المرقطْ
آه، ما أحلى لقاء المفتدي
هنا، بدأ أفراد من المكتب الثاني بمراقبتي، إلا أن استفردوا بي أمام سينما الريفولي في طرابلس، وكنت، وما زلت، أعشق مشاهدة الافلام الهندية التي تعرضها.
أخي جوزاف الذي كان برفقتي، قرر الذهاب الى سينما الكابتول، ليرى ملصق الفيلم الذي يعرض فيها، وبينما هو يقطع الطريق متجهاً نحوي، توقفت سيارة فولكسفاكن بيضاء، ونزل منها رجل يحمل مسدساً، وضربني به على رأسي وهو يصيح:
ـ سد بوزك.. لازم تسد بوزك.
وما أن سمع صراخ أخي جوزاف المهرول نحوي حتى ركب السيارة وفرّ هارباً.
**
حسين مواس
في عدد مجلة الدبور البيروتية، رقم 2314، تشرين الثاني 1969، نشرت قصة لقائي بأخي حسين موّاس، ومن جميل الصدف انني التقيته مجدداً في طرابلس بعد ثلاثين سنة، فوجدته يحتفظ بعدد المجلة التي نشرت قصة اللقاء، الذي سأطلعكم عليه، وطلب مني أن أحتفظ به كأمانة كي لا يضيع، وإليكم ما جاء فيه:
هذه وريقات اعتراف، أو بالأحرى مذكرات، كتبها طالب لم يفصح عن اسمه، ومنذ عدّة أيام وجدتها في دفتر مهمل، فبعثت فيها الحياة من جديد، لأني على يقين تام من أنها تحمل أفكاراً، كثيراً ما تراودنا، ونعجز عن الإفصاح عنها لسبب ما.
ـ1ـ
وقفت لأجيب المعلّم عن سؤال وجهه إليّ، قال:
ـ لخّص الحياة بعبارة واحدة، أو بالأحرى، عرّف الحياة بكلمات معدودة؟
فقلت:
ـ الحياة واحة لا مجال للحقد فيها، ونافذة ما أن تفتح حتى يعاد إقفالها.
وجلست. لكن الزميل الذي يجلس بجانبي نكزني، وقال ساخراً:
ـ قل هذا لجماعتك.
فسألته متعجباً:
ـ جماعتي! ومن هي جماعتي؟
فلم يجب.
ـ2ـ
للحقيقة أن كلمات حسين جعلتني في دوّامة من الحيرة والتفكير.
ماذا يقصد؟
أتعني عبارته تلك شيئاً؟ أم قيلت على أساس المزاح واللهو؟ من يدري؟
ولكنني قررت أن أستفهم أكثر.
ـ3ـ
ـ هل من جديد؟ سألته.
أجاب: لا.. وأنت؟
قلت: ليس عندي من جديد، لأنني أفتّش عن الماضي.
قال: وهل يعجبك الماضي لدرجة التفتيش عنه؟
قلت: الماضي كناية عن ذكريات لا تدمي، أما الحاضر فحقائق ترعب، وتجرح، وتميت.
قال: أهذه فلسفتك؟
قلت: لا، بل هذه عقليتي.
ـ4ـ
طلبت منه القيام بنزهة، فوافق، شرط أن لا أكلّمه بالسياسة مطلقاً، خوفاً، وهكذا قال، من أن أبثّ فيه روح الانهزامية والاستعمار.
ـ5ـ
لدى نزولنا من السيارة، سألني:
ـ لِمَ أنتم ضدّ التجنيد الإجباري؟
فأجبت:
ـ معاذ الله، فأنا أول من سيحمل البندقيّة دفاعاً عن أرضه، ولكن ليست الحرب، اليوم، بجمع الجنود وحشدهم، بل باقتناء آلات حربية حديثة، وتدريب اختصاصيين عليها، فطيّار واحد، قال بيار الجميّل، أفضل من ألف جندي.
ـ وفلسطين هذه المسكينة، قالها بحدة وألم، لِمَ لا تؤيّدون فدائييها الأبطال، الذين لا يرضون الذل أبداً؟
فقلت:
ـ يظهر أنك لا تقرأ إلا الجرائد اليسارية المتطرفة، لذا سآتيك بما قاله بعض أركان الحلف الثلاثي بهذا الصدد:
قال الشيخ بيار الجميل: " إن اللبنانيين مجمعون على تقديس العمل الفدائي، والسمو به إلى أعلى المستويات في سبيل قضية نعتبرها عادلة ومحقّة".
وقال أيضاً:
"إن شباب الكتائب يتبرعون بالدم للفدائيين، وهذا عمل إيجابي، أما الهتافات العدائية، والشعارات والتظاهرات الاعتباطية، فهي لا تخدم أولاً وأخيراً سوى مصلحة العدو".
وقال الرئيس كميل شمعون في خطاب له:
"فلسطين لنا، والقدس لنا، والشرق العربي شرقنا به نفخر ونعتز".
ـ6ـ
ـ وجمال عبد الناصر لِمَ لا تحبّونه، وهو.. وهو؟
قلت له باستغراب ظاهر:
ـ ومن قال إننا لا نحبه؟
أجاب:
ـ تلك التظاهرة التي دعت إليها أحزاب الحلف استنكاراً لتدنيس العلم اللبناني. قالوا إن العلم ديس ومزّق، والحقيقة أنه لم يحصل شيء من هذا القبيل.
قلت:
ـ وما الذي حصل إذن؟
قال:
ـ علّقت فوقه صورة الرئيس جمال عبد الناصر فقط!
قلت:
ـ وهل يريد الرئيس عبد الناصر ذلك؟ هل يريد أن تعلّق صورته فوق علم الجمهورية العربية المتحدة؟
قال:
ـ لا وألف لا.. فهو عزيز النفس أبيّها، لا يرضى بمثل هذه السخافات أبداً.
قلت:
ـ إذن كيف تريدنا نحن أن نرضى بها، على حساب شرفنا وأسمى قدسياتنا، علمنا المفدى؟
قال:
ـ لو أنكم تحبّونه فعلاً، لما كنتم تقفون جانباً كلما قمنا بتظاهرة تأييد له، وكأنكم لستم من أبناء العروبة؟
قلت:
ـ إن مظاهر التأييد والاعجاب لا تظهر بالمسيرات الضخمة، والخطب الرنانة، بل بالسكوت والعمل المثمر أيضاً. وأعتقد أن جميع الرؤساء يفضّلون السكوت على الضجيج، والعمل المثمر على التظاهرات والاضرابات التي تشلّ حركة البلاد، ولا تخدم سوى مصالح العدو.
ـ7ـ
سألني:
ـ من تحب من السياسيين بغضّ النظر عن الحزبيّات الضيّقة؟
فأجبت على الفور:
ـ أحب الذين يحبّون لبنان.
فنظر إليّ نظرة عتاب وقال:
ـ والعروبة، ألم تخطر ببالك؟
قلت مبتسماً:
ـ لبنان، يا عزيزي، قلب العروبة النابض، فلا حياة لقلب دون جسم يقيه شرّ الطامعين بدمائه.
ـ8ـ
قال لي فجأة:
ـ انتظرني.. فسأعود بعد قليل، لن يطول غيابي.
فسألته:
ـ إلى أين؟ أيمكنني مرافقتك؟
فأجاب:
ـ كلاّ.. فأنا ذاهب لأصلي.
قلت:
ـ سأذهب معك.
قال:
ـ مستحيل..
قلت:
ـ ولماذا؟
قال:
ـ أنسيت أنك ماروني مسيحي؟
قلت:
ـ أمحرّمة علينا نحن الصلاة في الجامع؟
قال:
ـ لا.. ولكن هناك شروط يجب تنفيذها قبل بدء الصلاة. انتظرني ريثما أعود.
قلت:
ـ إسمع يا صديقي: بإمكانك أن تبقى أنت هنا، أما أنا فسأذهب وأصلي..
فقال:
ـ لا تعنّد..
قلت:
ـ وأنت لا تغضب الله..
قال:
ـ أمري له..
قلت:
ـ بل كلنا له.
ـ9ـ
ـ أتدري يا حسين، إني بدخولي الجامع زدت إيماناً وتقوى، فلقد بتّ أشعر أن خطيئة مميتة قد غفرت لي. أتعرف ما هي؟ إنها خطيئة التعصّب.
ـ10ـ
ـ حسين.. هل دخلت الكنيسة يوماً؟
ـ كلاّ..
ـ وهل ستدخلها؟
ـ أجل.. فعمّا قريب سأرد لك الزيارة.
ـ11ـ
تنهد وقال:
ـ السياسة!
ـ دعنا منها يا حسين..
ـ السياسة هي التي تفرّقنا..
ـ والتفاهم هو الذي يجمعنا..
ـ أجل.. التفاهم..
ـ آه لو يحدث بين زعماء هذا الوطن المسكين.
**
عمي يصوّب المسدس الى رأسي
حين علمت، في ستينيات القرن الماضي، أن الاستاذ لويس أبو شرف سيحاضر في بيت الكتائب في مدينة طرابلس، طرت من الفرح، كيف لا، وقد سمعت عنه الكثير، بأنه سيد الإلقاء، وأمير الخطابة، وما علي سوى اغتنام فرصة وجوده في الشمال، لأتعلم منه كيفية السيطرة على الحضور، وكيف علي أن أنهي الجملة، وأختم الالقاء دون أن يتسرب النعاس إلى أعين المستمعين.
في الموعد المحدد ذهبت مع جاري السيد فرج ضوميط الى الندوة، وكان إنساناً مثقفاً للغاية، يقرأ كثيراً ويتكلّم قليلاً، وكنت أرتاح لرفقته، لا بل كنت أقضي معظم وقتي معه في القرية، بين يديه كتاب، وبين يديّ كتاب آخر، والصمت ثالثنا.
دخلنا القاعة، وبعد ربع ساعة أطل الاستاذ لويس وبدأ بالكلام، وكنت أصغي اليه بتمعن زائد، لأكتشف سر تفوقه في الخطابة، وأعترف أنني تعلمت منه أشياء كثيرة ما زلت ألجأ إليها كلمأ وقفت وراء الميكرفون.
في اليوم الثاني التقى عمي بإبن عديله فرج، وشكره على صحبته لأبن أخيه شربل، فما كان من فرج إلا أن قال:
ـ لا تخف يا زوج خالتي، أنا وشربل رفاق الكلمة، والبارحة استمعنا معاً الى الاستاذ لويس أبو شرف، وهو يحاضر في بيت الكتائب.
ومن دون أن ينبس ببنت شفة، تركه عمي وتوجه الى بيتنا، وناداني بأعلى صوته:
ـ شربل، إنزل، أريد أن أتكلم معك.
ونزلت الدرج، والدهشة تعلو وجهي:
ـ عمي، ما بك، هل أنت بخير؟
ـ تعال معي، أريد أن أريك شيئاً.
مشى أمامي وأنا أتبعه كظله، إلى أن وصلنا إلى حقل كان يربط به عجل المرفع، هناك التفت إلي وصاح، وهو يصوب مسدسه الى رأسي:
ـ أرني بطاقتك الحزبية.. أسرع.
ـ عن أي بطاقة تتكلم..
ـ هل انتسبت لحزب الكتائب؟
ـ كلا.. والله لم أنتسب.
ـ وماذا كنت تفعل هناك البارحة؟
ـ ذهبت مع فرج للاستماع الى محاضرة الاستاذ لويس أبو شرف.
ـ إياك أن تكذب عليّ..
ـ والله، أنا أقول الحقيقة.
ـ إحلف بسيدة مجدليا..
وكان الأهل قد علمونا أن من يحلف زوراً باسم "سيدة مجدليا" لن يوفقه الله طوال العمر. لذلك كنا نتحاشى أن نقسم باسمها.
ـ وحياة سيدة مجدليا لست حزبياً، ولن أنتسب لأي حزب، لا الآن ولا غداً.
ـ آسف لأنني صوبت المسدس الى رأسك، خفت عليك من أن تتحزّب وتضيع في متاهات أنت بغنى عنها.
ـ ولماذا تخاف عليّ؟ ألم يكن جدي طنسا رئيساً لحزب الكتائب اللبنانية في مجدليا؟
ـ هذا كان عام 1938، أما اليوم فكل شيء تغير، وأصبحت الأحزاب أكثر من الصراصير، وجدك لم يكن شاعراً مثلك، لذلك لا أريدك أن تنتسب لأي حزب على الاطلاق. أريدك حراً كالهواء، ومحلقاً كالنسر.
ـ والله لن أنتسب لأي حزب.
ـ هل أخفتك؟
ـ لا لم أخف، لا منك، ولا من مسدسك، لأنني أعلم مدى محبتك لي، فلقد كنت الوحيد الذي يعطيني المال من أجل أن أذهب إلى بيروت لنشر أدبي.
ـ لا تخبر أحداً بما حدث.
والظاهر أن عمي صدقني، لذلك لم يغضب مني حين ألقيت تلك الأمسية في مركز حركة 24 تشرين.
بقي عليّ أن أذكر أن المسدس الذي صوبه إلى رأسي، حملته عام 1970، عندما فاز سليمان فرنجية بكرسي الرئاسة، يومها قرر عمي أن يذهب إلى "إهدن" للتهنئة برفقة وفدٍ كنت أنا من بين أعضائه، ولكي يكتمل ديكور الوفد سلّم لكل واحد منا مسدساً مع مشطين، وطلب منا أن نطلق النار في الهواء لحظة وصولنا الى ساحة القصر.
وعندما عدنا، سلمته المسدس والمشطين، فنظر إليهما وصاح:
ـ ألم تطلق رصاصة واحدة في الهواء.
ـ بالطبع لا..
ـ والله أنت لن تصبح رجلاً على الاطلاق.
ـ أنا ضد هذه الثقافة القاتلة، التي تودي بحياة مئات الناس الابرياء.
وما ان انتهيت من عبارتي هذه، حتى أدار ظهره لي وهو يتمتم:
ـ مجنون من يصطجب معه شاعراً في وفد.
عمي البطل هذا، سرقته منا الحرب الاهلية اللعينة، واستشهد في 14 كانون الثاني من عام 1976، بعد أن أحرقت بيتنا عناصر الاحزاب المتصارعة على القتل والدمار، وتشريد الشعب اللبناني في كافة أصقاع الارض، وبسببهم، أجل بسببهم، ركب أهلي البحر الى قبرص، ومنها إلى أستراليا.
**
رصاص الابتهاج
لم تكن المرة الأولى التي يطلقون بها النار استحساناً بما أقول، فلقد أطلقوا النار في الهواء، عندما رثيت مختار بلدة مجدليا السيد سركيس الخوري بعيني، وكنت يومذاك في الخامسة عشرة من عمري، وكنت قد تدربت على إلقائها جيداً، فوقفت على قبرٍ بالقرب من باب الكنيسة كي يراني المعزون، ورحت ألقي، وما أن انتهيت حتى انهمر الرصاص في الهواء.
يومها، سبقني الشاعر حنا موسى في إلقاء قصيدته، وعندما أنزلوني من على القبر، اقترب مني وقال:
ـ لم أكن أعلم أن في مجدليا موهبة شعرية كهذه.
ـ ها قد علمت الآن، ولكنني لا أملك صوتاً جميلاً كي أغني معك على المسارح.
هز طربوشه، وراح يشق طريقه بين المعزين، إلى أن غاب عن ناظريْ.
عام 1987، زار حنا موسى أستراليا، فدعاني صاحب جريدة النهار الاستاذ بطرس عنداري للعشاء معه في منزله.
وما أن دخلت عتبة الدار، حتى وجدت أن بعض الشعراء الاعداء، الذين أصبحوا أصدقاء فيما بعد، يلتفون حول حنا، ويتهامسون معه بكلمات لم أفهم منها شيئاً، وهم يشزرونني بخبث.
وفجأة اقترب مني وسألني:
ـ أخبروني أنك شاعر، هل لك أن تسمعني بعض الابيات؟
فأدركت للحال أن أعدائي قد نفخوه ضدي، وما علي سوى النجاح في هذا الامتحان. يومها كنت أستعد للسفر الى العراق للمشاركة بالمربد الشعري الثامن، فقررت أن أسمعه بعض الابيات من القصيدة التي سألقيها هناك، فقلت:
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ
هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ
أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ
أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
وما أن انتهيت حتى التفت إليهم وصاح:
ـ إذا لم يكن هذا شعراً، طز بالشعر. (بالحرف الواحد).
وأخذني جانباً وهو يقول:
ـ أسمعني، أسمعني أكثر.
فقلت له:
ـ أتذكر ذلك الشاب الذي رثى مختار مجدليا، وربّت أنت على كتفه، هذا أنا يا حنا.
ـ يا إلهي، يومها تعجبت من وجود شاعر في مجدليا لم أسمع به من قبل.
في هذه الاثناء، كان بطرس عنداري يؤنّب ضيوفه على تصرفهم الغبي، ويقول لهم:
ـ أنتم لستم بمستوى شربل بعيني، فكفّوا عن محاربته.
ولكي يكفّوا عن محاربتي، أعترف بطرس في إحدى أمسيات رابطة إحياء التراث العربي التي أقيمت حول أدبي عام 1986، بما يلي:
يعيش شربل بعيني شاعراً، عمله الشعر، حرفته الكلمة، هوايته إصدار أو تفقيس الكتب، ودغدغة الأوراق على المكتب، أو في الحديقة، أو في السرير.
لقد أصبح شربل بعيني ظاهرة مميزة في مغتربنا بتعدد دواوينه في جالية كانت حتى الأمس القريب قاحلة أدبياً وفكرياً.
في البداية كنت أظن أن شربل بعيني شاعر عددي بين مجموعة كبيرة من ناظمي الشعر الشعبي، الذي نعرفه باسم الزجل اللبناني، ومع مر السنين، ومواكبة انتاجه، تعرّفنا عليه وعلى دنياه الشعرية الواسعة، الشفـّافة، الضاحكة أحياناً والواجمة الجامدة أحياناً أخرى.
وتعرّفنا الى شربل بعيني شاعراً بلغتنا الفصحى، وقرأنا له مما قرأنا قصيدة "بهيسة"، وقصيدة "كيف أينعت السنابل؟" ووجدنا عنده الاصالة الشعرية ونبرة التجديد.
**
فيزا السفر
قبيل عيد العمال بأسبوع عام 1970، زارني السيد عبد الرحمن المقدّم في بيتي، برفقة وفد من حركة 24 تشرين، وقدّم لي دعوة للمشاركة بعيد العمال، مرفقة ببرنامج الاحتفال، وكنت أنا وأخوه فاروق آخر المتكلمين.
وبالطبع رفضت، لأن ما حصل في الأمسية الشعرية أخافني كثيراً، وبدد النوم من عينيّ، كيف لا، وأنا أحارب بشعري مثل هذه الزعامات وأدعو الى ضبط التفلّت الأمني، والذي زاد من خوفي أكثر ان الحركة احتلت قلعة طرابلس وأعلنت العصيان ضد الدولة.
هنا، قررت أن أختفي، فلجأت إلى بلدة "بزعون ـ قضاء بشري"، برفقة الصديق ميشال عيسى، عضو جمعية مكافحة الاهمال، الذي فتح لي بيته مشكوراً.
بقيت هناك أكثر من أسبوعين، لا أحد يعلم بمكاني، إلى أن جاءني أخي جوزاف وأخبرني أن موافقة سفري الى أستراليا قد أشرقت، وأن أخي جورج قد قدّم المعاملة، وما عليّ سوى الذهاب الى السفارة الاسترالية والحصول على إذن عسكري، كي أغادر البلاد.
في السفارة الأسترالية، قاموا بفحصي من رأسي حتى أصابع قدميْ، فوجدوني كالحصان، فسألوني:
ـ إذا طلبناك للخدمة العسكرية هل ستذهب الى فيتام لتحارب هناك؟
ـ أجل، وبدون أي تردد.
جوابي هذا لم يأتِ من بطولة، بل من يقين بأن أستراليا ستسحب جنودها من هناك، هكذا قرأت وهكذا صار.
ـ هل ستعود الى لبنان في حال جمعت مبلغاً كبيراً من المال، أم ستبقى في أستراليا.
فأجبت بطريقة شعرية:
ـ أستراليا أعطت وأستراليا ستأخذ.
ـ وهل تحمل شهادة عمل، كي تساهم في إعمار البلد.
ـ أجل، أنا خياط، وهذه هي الشهادة.
وكنت قد تعرّفت على أحد الخيّاطين المعروفين في طرابلس، فرحت أساعده بجمع الأقمشة وتعليق الثياب وتنظيف المحل، وما شابه، وفي نفس الوقت كنت أراقبه كي أتعلّم منه الصنعة.
مر شهر على هذا المنوال، إلى أن اقترب موعد زيارة السفارة الاسترالية، فطلبت منه أن يمنحني شهادة تثبت أنني عملت عنده كخياط، فرفض ما لم أدفع له عشرين ليرة.
ـ ولكني عملت عندك شهراً كاملاً، ولم أتقاضَ قرشاً واحداً.
ـ العمل شيء، والشهادة شيء آخر. إدفع.
دفعت، أجل دفعت، لأنهم لن يدخلوا شاعراً الى أستراليا ولو علق على صدره أحجاراً سحرية.
ـ مبروك، لقد منحناك الفيزا.
حملت الفيزا وخرجت وأنا أفكر في كيفية الحصول على الاذن العسكري، إذ لم يكتفِ الضابط برميي في بركة الوحل، بل يريدني أن أطلب إذناً منه كي أهرب من مسقط رأسي إلى عالم مجهول.
أمي وجدت الحل، إذ كانت الوحيدة من كل أفراد العائلة التي تعطي صوتها للنائب رينيه معوض، وكان وزيراً للمالية في حكومة الرئيس رشيد كرامي عام 1971، فلماذا لا نتواسط معه؟
في الموعد المحدد زرنا معاليه، أنا وأمي وعمي باخوس، فاستقبلنا أجمل استقبال، ثم التفت الى عمي وقال:
ـ أنت يا باخوس تنتخب مع بيت كرم على رأس الرمح، لا بل تدخل السجن دعماً لهم، أما هذه السيدة الفاضلة بترونلة، فهي الوحيدة التي تمنحني صوتها من بين كل افراد عائلتك.
نظر عمي الى أمي وسألها:
ـ هل هذا صحيح؟
ـ أجل، أتذكر يوم أخبرك شربل انه وجد وظيفة معلم في مدرسة دير الآباء البيض في منطقة القبة، وأن المدير طلب منه بطاقة توصية.
ـ يومها التقينا بالست ماري كرم ووعدت شربل بالبطاقة.
ـ ولكنها أعطتها لمعلم آخر، فحصل هو على الوظيفة وبقي إبني عاطلاً عن العمل. شربل دلّها على الوظيفة وشربل خسرها.
كان عمي وامي يتجادلان، وكان معاليه ينظر إليهما وهو يبتسم. إلى أن سأل عمي أمي:
ـ وكيف عرف رينيه بك بأنك تنتخبينه، والاقتراع سري؟
فأجاب الوزير معوّض:
ـ أنا أعلم بكل شيء، حتى بالوظيفة التي خسرها شربل، فلقد وظفت الست ماري رجلاً يعيل عائلة، وبحاجة ماسة الى العمل أكثر من ابنكم.
فالتفت عمي الى معاليه، وقال بحسرة:
ـ ولكن امرأة أخي حلقت خارج سرب العائلة، وانتخبت دون معرفتي، أي أنها غدرت بي.
ـ ولهذا سأساعدها، وأنفذ رغبتها، دون تردد.
هنا صمت عمي ولم يعد يتكلم، فقالت أمي:
ـ ألله يرضى عليك يا معالي الوزير، إبني شربل يريد إذنا عسكرياً كي يسافر.
هنا جن جنونه وتطلع بي وهو يصيح:
ـ أتريد أن تسافر؟!.. لقد كنا نمني النفس بأن بعض شبابنا الموارنة، يتلقون التدريب العسكري كي يتسلموا القيادة في المستقبل، فإذا بك تنخرط بأمسيات أدبية تافهة، وكتابات ثورية تطالب بتغيير النظام، بدلاً من أن تركز على دراستك لتصبح يوماً ما قائداً يفتخر بك الوطن.
فتمتمت أمي:
ـ وما العمل الآن؟
ـ وجّهي هذا السؤال لابنك.. هل يريد أن يسافر أم أن يتوقّف عن الكتابة ويكمل دراسته؟
وبدون اي تردد أجبت:
ـ أريد أن أسافر..
ـ إذن، سيسبقك الاذن العسكري الى المطار، وأتمنى، من كل قلبي، أن تصبح الوجه الاجمل للبنان في مغتربك.
رينيه معوض كان الزعيم اللبناني الوحيد الذي بكيته، عندما اغتالته يد الغدر.
**
الوداع
يوم رحيلي عن مجدليا، اصطف الأهالي على جانبيْ الطريق وهم يلوحون لي بأيديهم، منهم من كان يبكي، ومنهم من كان يسلم علي بحرارة، وأنا أمد يدي من شباك السيارة، وحدها أمي لم تظهر بين الجموع، فلقد اختفت عن الانظار تماماً.
بيّوس البعيني، خادم الرعية، ذاك الذي دافع عن "مراهقتي"، همس في أذني قائلاً:
ـ إياك أن تنسى مجدليا.. إياك أن تنسى كنيسة سيدة مجدليا. علّق هذا كالحلق بأذنيك.
عمي الأكبر بطرس يوسف الخوري البعيني، ذاك الذي طبع لي "مراهقة" من ماله الخاص عام 1968، أوصاني أن أرجع شاباً الى لبنان، أي قبل أن تركعني الشيخوخة، وإلا مت في غربتك، قالها، وهو يقبل جبيني، ويصلّب على رأسي.
والدي دسّ في جيبي فرض أخوية العذراء مريم البريئة من دنس الخطيئة الاصلية، وهمس في أذني:
ـ العذراء تحرسك يا ولدي.
وما زلت حتى اليوم أصلي فرض الأخوية قبل أن اندس في الفراش.
أما جدتي خرستين، فكان وداعها لي مضحكاً للغاية، فلقد قالت:
ـ أخبروني أن المسافر الى أستراليا يلتقط الدولارات من على الاشجار. لا تكن طماعاً، التقط عدة آلاف وعد مليونيراً الى حضن جدتك. هكذا والله.
في المطار وجدت الاذن العسكري بانتظاري، وكأنهم فرحوا وهللوا لرحيلي، ووجدت الموظف الاسترالي يدقق بحمولتي ويطلب مني أن أستبدل حذائي الذي ألبسه بحذاء جديد، فقلت:
ـ أنظر، هذا حذاء جديد!
ـ ولكنك لبسته قبل أن تدخل الى هنا.. اخلعه لأرميه في سلة المهملات.
ـ ولكني لا أملك حذاء آخر.
ـ كان عليك أن تتقيّد بما طلبناه منك، تصرف بسرعة، وإلا ستبقى هنا.
تطلعت من زجاج القاعة لارى أحداً من أهلي، فإذا بهم قد غادروا المطار، فوقفت بين الجموع وصحت:
ـ يأ أهل الخير، من منكم يملك حذاء رجالياً جديداً قياسه 10، كي لا أدخل الطائرة حافي القدمين.
فاقترب مني شخص من بلدة حوقا، نسيت اسمه، وقدّم لي حذاء قياسه 12، فأخذته منه، وأنا أعانقه وأشكره بحرارة، وأقدم الحذاء بعلبته للموظف الاسترالي، الذي فحصه طويلاً، وأمرني بارتدائه.
وضعت في الحذاء جوربين، كي لا يخرج من رجليْ وأنا أمشي، وفي الطائرة حاولت أن أعيده لصاحبه، فضحك وقال:
ـ هو لك، اذكرني في ملكوتك الاسترالي.
وقبل أن تهبط الطائرة في الملكوت الاسترالي، بدأت المضيفات ببخ مبيدات الجراثيم فوق الركاب، حتى أضحى هواء الطائرة ملوثاً، ويدفعك، دون ارادة منك، للتقيوء.
لم تكتفِ السلطات الاسترالية برمي حذائي الجديد في سلة المهملات، كي لا أنقل الجراثيم الى أرضها، بل حولتني الى جرثومة يحق لها بخها بالمبيدات، كي لا تهدد مجتمعها الخالي من الأوبئة.
عملية البخ هذه توقفت تماماً بعد أن فارقت "أمانة الخوري"، الداية التي سحبت رأسي، الحياة قبل خروجها من مطار سيدني، وقيل يومذاك أن المبيدات لم تقضِ على الجراثيم فقط، بل قضت على السيدة المسكينة، وكانت السبب بوفاتها.
**
الناولون
قد يتساءل البعض من أين حصلت على "الناولون" أي ثمن بطاقة السفر كي أركب الطائرة، فإليكم القصة:
عندما استلمت الفيزا، ذهبت الى سفريات الشبطيني في طرابلس، هناك استقبلني رجل ستينيّ السنوات، متواضع رحيم ومتفهم، فأخبرته بأنني على أهبة السفر الى أستراليا، ولكنني لا أملك قرشاً واحداً من ثمن التذكرة، فقال لي:
ـ أرني الباسبور..
فقرأ إسمي، وقال:
ـ أنت من آل البعيني من بلدة مجدليا..
ـ نعم.. أنا إبن سركيس بعيني
ـ آل البعيني عائلة شريفة وكريمة..
ـ شكراً..
ـ إسمع يا شربل.. يقولون من وجوههم تعرفونهم، وأنا عرفتك من وجهك أنك إنسان صادق..
ـ أشكرك يا سيدي..
ـ سأدينك المبلغ، وقدره 200 دولار أميركي، وعندما تصل الى أستراليا وتعمل هناك، بإمكانك أن ترسله لي.. اتفقنا؟
ـ أنا لا أعرفك، وأنت لا تعرفني، ومع ذلك جازفت برمي 200 دولار في الهواء، لأنهم قالوا: من وجوههم تعرفونهم؟
ـ انت ابن عائلة كريمة، لا تغدر..
ـ دعني أقبل يدك.. أرجوك.
ـ لي طلب واحد أخير، إياك أن تستدين المبلغ، أدفعه من جنى كفّك.
وعندما وصلت الى أستراليا عام 1971، أدركت أن جمع مبلغ 200 دولار ليس بالأمر السهل، وقد يستغرق وقتاً طويلاً، ومن العيب أن لا أسدده بسرعة، فالأمانة أمانة لا يمكن التلاعب بها.
أخبرت إبن خالتي بطرس البحري بالأمر، فاصطحبني الى بنك الكومنولث في منطقة "رجينس بارك"، فوافق المدير أن يديّني المبلغ بالدولار الاسترالي، شرط أن أسدده شهرياً.
ومع أول مسافر الى الوطن، أرسلت المبلغ مع رسالة شكر، الى الوالد الحنون، هكذا أسميته، الذي آمن بي دون أن يعرفني، وأمنني على مبلغ كبير، دون أن يرف له جفن. وطلبت من حامل المبلغ أن يخبرني عن ردة فعله، فقال:
ـ لم يكن مسروراً على الاطلاق، لأنه أحس أنك استدنت المبلغ.
من أين بإمكانك أن تجد ناساً كهؤلاء الناس، يمرون في التاريخ، ليكونوا منارة التاريخ.
**
من القلم الى الألم
عندما خرجت من مطار سيدني، أول ما رحت أنظر اليه هو الاشجار على جانبيْ الطريق، علني أجد دولاراً واحداً معلقاً على الاغصان كما أخبرتني جدتي، فلم أجد شيئاً.
الاستقبال الذي لقيته من أخويَّ أنطوان وجورج كان مؤثراً، فلقد غمراني بمحبة لا توصف، وبما أن جورج هو من قدم طلب الهجرة، وجب علي أن أسكن معه ومع زوجته أنطوانيت وابنته الطفلة خرستين.
وبعد أسبوعين فقط من وجودي في أستراليا، أحسست بضيق عظيم، وبحنين لا يوصف لاهلي في مجدليا، فقررت العودة، فحملت حقيبتي واتجهت الى محطة القطار القريبة من بيت أخي، وعندما رأتني أنطوانيت أجر الحقيبة خلفي، لحقت بي وهي تصيح:
ـ إلى أين أنت ذاهب؟
ـ إلى لبنان..
ـ ولكن القطار لا يوصلك الى لبنان.. أنسيت أن أستراليا جزيرة محاطة بالمياه.
عندئذ، جلست على الحقيبة ورحت أبكي، وهي تخفف عني وتقول:
ـ عد الى البيت، بعد ساعتين سيأتي أخوك جورج من العمل، وسندرس الوضع معه.
وعدت، إذ لا مفر من العودة، ولكني قررت أن أرضى بقدري، وأن أبدأ بالعمل، وما كتب قد كتب.
في تلك الايام، أي في العام 1972، كانت المصانع تدفع إكرامية لمن يجلب عاملاً لها، فدبّرني أحد الاصدقاء كحمّال ـ عتّال، في معمل لصنع صناديق الكرتون، في منطقة (فايف دوك) التي تبعد عن مكان سكني في منطقة (بيريلاّ) مدة ساعة بالقطار.
العمل هناك، كان متعباً ومؤلماً، وكان العمال اللبنانيون ينظرون إليّ بشفقة ويقولون:
ـ من القلم إلى الألم.
ولم يكتفِ أحدهم بالثرثرة، بل وقف في وجه أخي أنطوان، وكان قد جاء ليصطحبني الى منزله في منطقة (بيلمور)، وصاح:
ـ أخوك شربل شاعر، فكيف ترضى أن يعمل حمالاً، دبّر له عملاً يليق به.
والحقيقة تقال، إن العمل كان شاقاً، فلقد أعطوني منجلاً صغيراً كي أضعه في خنصري، بغية تقطيع الحبال التي أربط بها الصناديق كي لا تفلت، وكان "جيم" المهاجر اليوناني، يعمل على الآلة التي أجمع صناديقها، ولكي يحصل على بعض الدولارات الاضافية، كان يدفش الصناديق نحوي بسرعة لا تصدق، وهو يردد:
ـ قريباً جداً، سأعود الى جزيرتي اليونانية، وأسبح في مياهها الدافئة.
وكانت الصناديق تسبح نحوي دون توقف، وأنا أجمعها بالحبال وأقطعها، ومن ثم أحملها على ظهري إلى مستودع خاص بها.
وبعد شهرين من بدء العمل، أحسست باحمرار شديد في إصبعي الخنصر، الذي أحمل به المنجل الصغير، فقررت أن أعرضه على أحد الأطباء، الذي نظر إليه بتعجب وقال:
ـ إذا لم ينفعه البنسيلين، سنقطعه لا محالة.
فأجبته وأنا أخرج من عيادته:
ـ يقطع لسانك مللاّ طبيب.
داويت إصبعي بنبتة تدعى (حي العالم)، كان قد جلبها الجيش الفرنسي معه الى بلدتي مجدليا، وكانت أمي تعتني بها لتداوي أورامنا، ولحسن الحظ وجدتها في سيدني عند أحد أبناء زغرتا، فراح يزودني بأوراقها الخضراء، الغنية بسائل سحري يشفي الاورام، وكل ما عليك هو أن تجرح الاورق كي يسيل السائل، وتضعها على الورم، وهكذا فعلت الى أن طاب خنصري.
**
سرقت ابنتي
إذا قلت لكم إن الضجر كان يقتلني كل يوم، قبل أن أبدأ بالعمل، صدقوني دون تردد، فعدم معرفتي الجيدة باللغة الانكليزية، وبعد منطقة "بيريلا" عن المناطق المكتظة بأبناء الجالية اللبنانية، كان السبب في لجوئي إلى اصطحاب "خرستين" ابنة أخي جورج، في رحلة طويلة عبر الشوارع حتى وصولي الى منطقة "أوبرن"، ومن ثم أعود على ذات الطريق، التي علمتها بالاشجار والبيوت، كي لا أضيع ومعي طفلة.
وذات يوم، وبينما كنت أجر عربة الأطفال كالعادة، و"خرستين" الصغيرة، تغط في نوم عميق، إذا بامرأة تركض نحوي، وتدفشني بقوة وهي تصيح:
ـ لقد سرقت ابنتي.
وانحنت كالمجنونة نحو العربة لتشاهد وجه الطفلة المسروقة، حسب ادعائها، فإذا بها تجهش بالبكاء، وتغمرني وهي تقول:
ـ سامحني، لقد ذهبت إلى السوق وتركت ابنتي لوحدها في المنزل. والعربة تشبه عربتي تماماً.
وبلغة إنكليزية ركيكة، قلت لها:
ـ هذه "خرستين" ابنة أخي، أنزهها كل يوم كي أقضي على ضجري.
ـ أنا أسكن هنا في ذلك البيت الابيض، وابنتي من عمر ابنة أخيك، إذا أحببت بإمكاني أن أضيّفك فنجان شاي.
ـ شكراً، يجب أن أعيد الطفلة الى البيت كي لا تبرد.
ـ أرجوك، سامحني..
ـ إياكِ أن تتركي ابنتك لوحدها بعد اليوم، فالطفل لا يترك وحيداً أبداً.
ـ لقد تلقيت درسي.. سأجر عربتها، مثلك تماماً، كلما ذهبت الى السوق.
والشيء الرائع في اللغة الانكليزية، أن المتكلم معك يفهم عليك، ولو لم تنطق الجملة بشكل صحيح، ولهذا السبب تغلبت هذه اللغة على جميع اللغات، لتصبح لغة العالم أجمع لسهولتها.
هذه الحادثة، جعلتني أمتنع عن الذهاب في نزهتي اليومية عبر الشوارع مع "خرستين"، مخافة أن أتهم مجدداً بسرقة الاطفال، بل رحت أحملها على ظهري، وأركض بها الى حديقة قريبة، وكم كانت تفرح وتضحك وأنا أمرجحها وأغني لها:
ـ التشتشي والتشتشي
والخوخ تحت المشمشة
كــــل ما هب الهوا
لاقطف لخرستين مشمشة
إلى أن تتعب، ويداعب النعاس عينيها الصغيرتين، فأحملها مجدداً على ظهري وأعود بها إلى البيت.
**
بيتي الاسترالي
في فترة الاستراحة من العمل، بسبب المرض، رحت أطالع الجرائد التي ترمى مجاناً أمام المنازل، فوجدت أن شركة تدعى (جورني غروب)، تعلن عن وجود عدة منازل في منطقة (ماريلاندز)، بإمكان الراغب بها أن يحصل عليها، دون الرجوع الى البنك، أو الى المحامي، أو أن يسدد دفعة مسبقة، كل ما عليه هو التوقيع على عقد الشركة، ودفع ثمن المنزل بعد ثلاث سنوات فقط.
اتصلت بالرقم المدون في الجريدة، والتقيت بالمسؤول، فبرّمني بسيارته على عدة بيوت، أقل ما يقال فيها أنها مهترئة، ومع ذلك أعجبني بيت في نهاية شارع (ديزمند)، ومن دون أي تفكير وقّعت على العقد في أواخر عام 1972، أي بعد تسعة أشهر من وصولي الى أستراليا، فاستلمت منه المفتاح، ودخلت الى البيت، وأنا أغني:
ـ يا بيتي يا بويتاتي
يا مسترلي عويباتي
لم اسكن البيت لوحدي، بل سكنته معي عائلة أخي انطوان، بالاضافة الى الصديق آميل أبي خطار، الذي كان يملك سيارة جديدة، ينزهني بها يومي السبت والاحد.
فقررت أن أؤسس عام 1975 شركة (صوت الارز) لتسجيل الاغنيات العربية، وتوزيعها على المحلات، كون الجالية بحاجة ماسة لها، كيف لا، والحرب الاهلية في لبنان تحجب عنها الاستيراد والتصدير، فسألت الصديق آميل إذا كان يرغب بمشاركتي، خاصة وانني بحاجة لسيارته، فأبدى الموافقة.
أما كيف خطرت لي هذه الفكرة، فلقد سئمت من سماع أغنية واحدة للسيدة فيروز، كانت أنطوانيت، إمرأة أخي جورج، تسمعني إياها كل صباح:
ـ يابا لالا لالا لالا
بتريدي تحاكينا أو لا
رح بتردي علينا او لا
يعني ما بتحبينا
لا
ولا بتحبي غنانينا
لا
ولا رح بتردي علينا
يابا لالا لالا لالا
وكنت أسألها:
ـ ألا تملكين سوى هذه الأغنية، ألم تضجري من سماعها؟
وكانت تجيب:
ـ لا أملك سواها.. منها أتعلم النطق باللهجة اللبنانية.
ومنها حصلت على فكرة تسجيل وبيع كاسيتات الاغنيات على اختلاف أنواعها.
من لبنان، كان أخي جوزاف يزودني بشرائط غنائية مدة كل واحد منها ساعة، وكنت أنقلها الى عدة آلات تسجيل، موزعة داخل صندوق زجاجي ضابط للصوت.
بقينا على هذا المنوال إلى أن استأجرنا محلاً تجارياً لبيع الادوات المنزلية، وفي نفس الوقت أصبح مركزاً لشركة (صوت الارز)، ولكننا لم نستمر طويلاً في هذا المحل، بسبب تركيب الاشارة الضوئية عند مفترق الطرق، ووضع علامات ممنوع الوقوف أمام المحل، وأصبح من المستحيل أن تتوقف سيارة، فأقفلناه.
بعد مدة، فك الصديق آميل الشراكة، بغية الذهاب الى لبنان، فانتقلت الى استعمال آلات التسجيل الحديثة، التي تنهي ثلاث كاسيتات على الميلين بدقيقة واحدة.
في هذه الاثناء انتقل اخي انطوان وعائلته الى مدينة ملبورن، ليدير محلاً تجارياً في منطقة (وورندايت)، وانتقل أخي جورج الى منطقة (مونت درويت) بعد حصوله على مسكن حكومي. فما كان مني إلا أن أجرّت البيت، ما عدا غرفة منفردة، لها باب خاص، وتحتوي على آلات التسجيل، فكنت أدخل وأخرج منها دون إزعاج المستأجرين.
تركت العمل في مصنع الكرتون، لأبدأه في مصنع (درايغلو) للمناشف في منطقة (فايف دوغ). هناك خضعت للتدريب على الحياكة البيضاء والملونة، مدة ستة أشهر، قبل أن يسلموني ثماني آلات، وما علي سوى أن أديرها، وأمنع توقفها، وأجمع مناشفها في آخر اليوم.
بقيت هناك مدة سنتين تقريباً. بعدها انتقلت الى مصنع للمناشف أيضاً، يدعى (سوبرتاكس) في منطقة (أوبرن)، أي أصبحت المسافة أقرب الى غرفة التسجيل، فبدأت أوزع الأشرطة في النهار، وأحيك المناشف في الليل، ومما ساعدني على ذلك هو حصولي على رخصة قيادة السيارات، التي أجبرت رغم نجاحي بالقيادة، على دفع عشرين دولاراً للشرطي كرشوة، وإلا ودّع الرخصة.
ما أن وصلنا إلى المركز في منطقة (باراماتا) حتى دخل حضرة جنابه الى الحمام، وأمرني أن أتبعه، هناك مدّ يده وتناول العشرين دولاراً من يدي، وأخفاها في جيبه بخفة لا مثيل لها، وأنا ألعن الحالة التي أوقعني بها مدرب القيادة، إذ طلب مني أن أتخلى عن قيمي الاخلاقية، وأنفذ الأوامر دون تأفف، وإلا لن أحصل على الرخصة.
سيارتي الأولى كانت من نوع (هولدن)، وكنت بها أتنقل بين (أوبرن) و(ماريلاندز) و(مونت درويت) حيث أبيت الليل في منزل أخي جورج.
**
هجرة الوالدين
حياتي، تغيّرت كلياً، عند وصول أبي وأمي وأخي مرسال وزوجته لور، إلى مدينة ملبورن، عام 1976، فلقد بدأت أشعر بالقوة، وأن لوعة الاغتراب بدأت تضمحل، كيف لا، وكنت أقبل جبين أمي ويد أبي كلما زرتهما هناك.
وبما أنني غير متزوج، وبحاجة لمن يرعاني ويعطف علي، بدأت أطالب أخي أنطوان بالتنازل عن والديه، إكراماً لي، فوافق بعد أن قطعت له وعداً بأنني سأزوره مع أبي وأمي كل شهر تقريباً.
وبعد ظلامٍ دامس، شعت الانوار في بيتي القديم المهترىء في منطقة (ماريلاندز)، وأصبحت رائحة المأكولات التي تعدّها أمي تنعش الأنفاس قبل البطون.
وبدأ والدي يشرف على التسجيلات الغنائية، لا بل كان يستلم الطلبيات عبر الهاتف وينفذها، بينما أنا أحيّك المناشف في الليل.
وليس هذا فحسب، بل أضيف الى عملي في المناشف والاغنيات عملٌ آخر، إذ طلبت مني الاخت كونستانس باشا أن أشرف على مادة اللغة العربية في معهد سيدة لبنان. رفضت بادىء ذي بدء، ولكن أمي شجعتني وقالت:
ـ أنت ولدت معلماً، شاعراً وأديباً، فكيف ترفض وظيفة خلقت لها يا ولدي.
ـ إذا قبلت الوظيفة، سأخسر الكثير من المال، إذ أنني سأجبر على إغلاق (صوت الارز).
فغنت لي بصوتها الناعم بيتاً شعرياً أهداه أحد الشعراء لابنته التي أحبت شاعراً مثله:
ـ وين شفتي شاعر ولابس فري
كلنا بحاله مرتّه ما عدا
ومساعده من الاهل لا تستنظري
أي، هل رأيت، يا ابنتي، شاعراً يرتدي الفرو الثمين، كي تغرمي به، إنه وبأفضل الأحوال سيكون فقيراً كأبيك الشاعر، ناهيك عن المصائب والأهوال التي قد تصيبك بسبب ما سوف يكتب أو يغني على المنبر؟
إلى ما هنالك من أبيات نسيتها تماماً، وما أن انتهت من الغناء، حتى غمرتها ورحت أقبلها كالمجنون، وهي تصيح:
ـ إلحقني يا سركيس.. إبنك جنّ.
الآن، أصبحت أمارس عدة مهن، حياكة المناشف، تسجيل الاغنيات وتعليم الاطفال، فلقد انتسبت الى مدرسة سيدة لبنان ـ هاريس بارك عام 1980، بدوامٍ كامل، كمسؤول عن مادة اللغة العربية.
هذه الأعمال الكثيرة المتشابكة ليلاً ونهاراً، جعلتني أوفّر مبلغاً محترماً من المال، فقررت أن أشتري سيارة مرسيدس جديدة تليق بوالديّ أثناء زيارة الأقارب والأصدقاء. فتناقشت مع والدي بالامر، فقال:
ـ إذا، لا سمح الله، تعرّضت لحادث ستذهب المرسيدس الى الفرط.
ـ لا تخف يا أبي، سيكون هناك تأمين، ولن تذهب المرسيدس للفرط.
ـ عندما تزوجت أمك وعدتها ببناء منزل جديد، ولكن وعدي لها لم يتحقق، ولن يتحقق، إلا من خلال أبنائي.
ـ أتريدني أن أحقق الوعد؟
ـ عندها سأموت مرتاحاً.
عام 1979، قدمنا لبلدية (هولرويد) خريطة الفيلا المزمع إقامتها مكان البيت القديم في شارع (ديزمند)، فوافقت، وقبل أن نبدأ بالهدم وقف على بابي مفتّش الضرائب، وراح يسألني عن كمية الاشرطة الغنائية التي أبيعها، وما الربح الذي أجنيه، فأبديت كل تعاون، وطلبت منه أن يتصل بمكتب إبن حردين جو خوري الضريبي، المسؤول عن تعبئة أوراقي كل سنة.
بعد أسبوع من التفتيش المتواصل، أخبرني جو أنه أخطأ بعدم إخباري بأن علي تسديد الضريبة الاضافية على الاشرطة كل شهر، وأن عليّ تسديد مبلغ 9000 دولار للحكومة، كي لا أتعرّض للمحاكمة والسجن.
المبلغ كبير جداً، بإمكاني أن أشتري به نقداً شقة مؤلفة من ثلاث غرف نوم في ذلك الوقت.
دفعت المبلغ، وقررت أن أنهي (صوت الارز) تماماً، وأن أتفرّغ للتعليم، وأن أؤجّل بناء البيت الى عدة سنوات، لأن ربع المبلغ المخصص لذلك لم يعد موجوداً بعد أن سددت العائد الضريبي تلك السنة.
والظاهر أن والدي لم تعجبه فكرة تأجيل البدء بالبناء، فصاح:
ـ سنبدأ بالهدم فوراً.
ـ لقد طار ربع المبلغ يا أبي، وما علينا سوى الانتظار.
ـ لقد التقطت المبلغ وهو طائر، وأرجعته الى جيبك.
ـ ماذا تقول؟ أتمزح معي؟
فنظر إلى أمي وقال:
ـ افتحي المدفأة..
وكان في المنزل مدفأة قديمة تعمل على الغاز، خبّأ فيها والدي ما كنت أعطيه من دولارات مصروفاً لحاجيات البيت.
ـ هل خبأت المال في المدفأة؟
ـ أجل، لأنها غير شغالة..
أمي تسحب الدولارات من كيس ورقي، وتعطيها لي، وأنا أعدها، فإذا بي أحصل على 8000 دولار. فصحت من شدة الفرح:
ـ هللويا.. هللويا لقد ولد لكم المنزل الجديد.
وبدأت بهدم القسم الخلفي من البيت، كي يبقى لنا القسم الامامي للعيش فيه طوال مدة البناء.
الفيلا التي صمّمها ابن مجدليا المهندس جورج حنا الخوري، جاءت جميلة جداً، بأحجارها البيضاء المنمشة بالأسود، والمطبوخة بالخل كي لا يتغيّر لونها، وبقناطرها الممتدة لطابقين، مع شرفتين مسقوفتين.
بقي شيء واحد لم أتمكن من تنفيذه، ألا وهو مدخل البيت والكاراج، فلقد كان ينقصه الاسمنت، ولم يبقَ معي دولاراً واحداً كي أتخلص من الاتربة والوحل.
وذات يوم زارني إبن خالتي بولس البحري، وكان من أشهر البنائين في سيدني، وطلب مني أن ألقي قصيدة في عرس ابنه "جو"، فقلت له:
ـ أنظر الى مدخل البيت، لا إسمنت ولا من يشفق علي ويساعدني.
ـ أنت أكتب القصيدة وأنا سأفرش لك الاسمنت.. ما رأيك؟
ـ متى ستحدث هذه الاعجوبة؟
ـ غداً..
وعند طلوع الفجر وجدته يقف هو وأخي جورج أمام البيت بانتظار شاحنة الاسمنت، وما هي إلا لحظات حتى بدأ بمد الأخشاب حول المنطقة التي سيغطيها الاسمنت، وفي المساء لم أصدق عينيّ حين تطلعت بالمدخل فإذا به تحفة إسمنتية رائعة. وصدفوني انها المرة الأولى والأخيرة التي أقايض بها الإسمنت بالقصيدة، ولكني فعلت.
**
وفاة الوالد والوالدة
نسيت أن أذكر لكم أن أخي جوزاف وعائلته جاؤوا من لبنان، كما انتقل أخي أنطوان وعائلته من ملبورن الى سيدني ليكون قريباً من والديه، أما أخي جورج فقد اشترى بيتاً يبعد عن بيتي عشرة أمتار فقط، أي أصبح جاري، أما أخي مرسال فلقد انتقل مع العائلة للعيش معنا.
وحده أخي ميشال بقي مستقراً في مدينة ملبورن، ولم يرغب بالانتقال الى سيدني والعيش فيها.
كما أخبرتكم، فلقد بنيت الفيللا، لأحقق وعد أبي لأمي، ولكن القدر كان لنا بالمرصاد، فلقد توفي أبي في 3 آذار 1982، أي بعد سنة واحدة من دخولنا الى البيت الجديد، وبدلاً من أن نتقبّل التهاني، تقبلنا العزاء.
وقد لا أبالغ إذا أخبرتكم أن جنازة أبي كانت تاريخية، إذ تلقينا مئات الأكاليل من الأزهار، لدرجة أن شركة الدفن استعانت بشاحنة كبيرة بغية نقلها الى كنيسة سيدة لبنان في هاريس بارك. وما أن رأى المونسنيور يوسف توما الشاحنة حتى قال:
ـ عشرات الالاف من الدولارات ستذبل وتذهب هدراً.
وكانت أمي دائماً تقول:
ـ لو مت، هل ستزينونني بأكاليل الزهر كما زينتم والدكم؟
وعندما انطفأ نور عينيها الجميلتين في الخامس من تموز عام 1999، زينتها عشرات الاكاليل، المصنوعة من الزنبق الابيض، ولقبّها الاعلام المهجري "بأم الكل"، ورثاها الشعراء في الوطن والمهجر. كما أصدرت عدداً خاصاً بوفاتها من مجلة "ليلى" التي سآتي على ذكرها في مكان آخر.
وفي ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاتها، أقمنا قداساً في كنيسة "سانت مرغريت ماري" التي كانت تصلي بها دائماً، فامتلأت الكنيسة بمئات المعزين، لدرجة أن الكاهن "رود براي" قال في خطبته:
ـ إنها المرة الأولى التي أرى بها هذا العدد المفرح من السيدات المسلمات المحجبات الفاضلات اللواتي جئن للصلاة عن صديقة أحببنها وكان إسمها بترونله بعيني.
أخي مرسال اشترى بيتاً يبعد عن بيتي مسافة خمسين متراً في نفس الشارع، أي أصبحت العائلة تتجمع في شارع واحد، والحمد لله.
وبما أنني أتيت على ذكرها، سابدأ بنشر قصصي معها، فلقد كانت أمي، وأختي، وملهمتي، وإذا كان وراء كل رجل عظيم امرأة، فهذه المرأة هي أمي. واليكم قصصي معها:
لولا سفر أخي الاكبر أنطوان الى أستراليا، لما علمت أن أمي تقرأ وتكتب بصعوبة بالغة، شأنها شأن معظم نساء ذلك الوقت. فلقد كانت، رحمها الله، تتفحّص فروضي المدرسية بعينين جائعتين وتصرخ:
ـ شربل.. راجع فرضك جيّداً، قبل أن تذهب الى اللعب.
وكنت، والحق أقول، أحترم "معرفتها"، فأراجع فرضي مرة ومرتين، قبل أن أرميه مجدداً بين يديها الطاهرتين كي تتفحّصه من جديد، وأسمعها تقول:
ـ الله يرضى عليك وعلى إخوتك.. بإمكانك أن تذهب الآن.
قلت "إخوتك" ولم أقل "أخواتك" لأن الله رزقها بستة شباب: أنطوان وجورج وجوزاف وشربل وميشال ومرسال، لذلك كانوا ينادونها في بلدتي مجدليا بـ "أم ست شباب".
كانت الأمور التعليمية تسير كما يحلو لوالدتي "بترونله"، إلى أن نادتني الى مطبخها المتواضع الفقير القابع في قبو المنزل، إثر استلامها رسالة من أخي المغترب أنطوان، وهمست كي لا يسمعها أحد:
ـ سأغضب عليك اذا فضحت أمري..
ـ ما بك يا أمي قولي؟
ـ أريدك أن تستمع إلي وأنا أقرأ رسالة أخيك، وأن تصحح لي أخطائي..
ومن ثم ستعاونني على كتابة الجواب.
فصحت بأعلى صوتي:
ـ أمي.. ماذا تقولين؟ أنت معلمتي.
ـ كنت أتظاهر أمامك بأنني معلمة، كي لا يقاصصك أحد المعلمين.
وكطفل صغير غمرت يديها الاثنتين ورحت أقبلهما وأبكي.. وهي تربّت على ظهري وتقول:
ـ لا تخف، سأتعلم بسرعة.
ولم تتعلّم أمي بسرعة إلا عندما سافر أخي جورج، فلقد وجدت أن حبّات "مسبحة" عائلتها بدأت تتطاير في كل مكان، وأن عليها أن تقرأ وتجيب على أكثر من رسالة.
وما أن بدأت بنشر قصائدي الثورية في الصحف والمجلات اللبنانية، حتى بدأت أمي تراجع حساباتها، وتقول في سرّها:
ـ ماذا لو سافر ابني شربل؟
وبدأت تطالبني بدروس كتابية أكثر، لأن قراءتها أصبحت مقبولة، إلى أن تحقّق ظنها. فلقد نشرت باللغة العامية اللبنانية عام 1968 ديوان "مراهقة" الذي لاقى استهجاناً شديداً من بعض المتزمتين أخلاقياً ودينياً بسبب إباحيته الفاضحة، حسب تعبيرهم، مما ساعد في شهرتي وأنا في السابعة عشر من عمري.
بعده بسنتين، أي عام 1970، نشرت ديواني الثاني "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة"، ألحقته مباشرة في الصحف والمجلات وعلى حلقات ديوان "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط "، مما حدا بحركة "24 تشرين" لدعوتي لإلقاء أمسية شعرية في مقرها بمدينة طرابلس، جاءت قاضية على مستقبلي المعيشي في لبنان، بسبب مطاردة خفافيش المخابرات لي، وتهديداتهم المتواصلة، فحملت حقيبتي ورحلت الى سيدني أستراليا في أواخر عام 1971.
هنا بدأت أقطف ثمار ما زرعت، فلقد وصلتني أول رسالة بخط أمي وإمضائها تقول في مطلعها:
" مجدليا في 2 كانون الأول 1972
إبني الحبيب، ومعلمي الأحب، قرة عيني شربولتي..
أشكر الله تعالى أنني أمنتك على سري، يوم أخبرتك أنني أقرأ وأكتب بصعوبة بالغة، وها أنا، بفضل الله وفضلك، أكتب إليك أول رسالة، أرجو أن تصحح لي أخطائي الاملائية، وتخبرني عنها كي أتلافاها في رسائلي المقبلة.
ستبقى معلمي وإن بعدت عن ناظري، وسأظل أتلقى دروسك البريدية إلى أن تقول لي: مبروك يا أمي لقد نجحت في الامتحان."
واسمحوا لي بعد أكثر من 44 سنة، وبعد أن غيّبها الموت، أن أقول لها والدموع تحرق خديّ:
ـ مبروك يا أمي، لقد نجحت في الامتحان.
**
صفعتني أمي
لم تضربني أمي، وأنا صغير، رغم مشاغباتي الكثيرة، ولكنها ضربتني وأنا في الثالثة والثلاثين من عمري، بعد مشاركتي باحتفال أدبي أقيم في قاعة "ثانوية مدرسة وايلي بارك"، تكريماً لأمير الشعراء أحمد شوقي. وكانت المناسبات الأدبية في ذلك الحين تجلب أناساً عديدين، عكس اليوم تماماً، وكنت، وللأسف، مغروراً بنفسي، أمشي بين الناس كالطاووس، ولسان حالي يردد:
أنا ديك من الهند
جميل الشكل والقدّ
وأذكر أنني ألقيت يومذاك قصيدة رائعة، ألهبت الأكف، وأجبرت دكتوراً مصرياً، أعتقد أن كنيته "العريان"، قادماً من العاصمة كانبرا، على الوقوف وهو يصفق، ويصيح:
ـ برافو.. برافو
ورغم أنني كنت آخر المتكلمين، إلا أنني أحسست بتفوقي عليهم جميعاً، فنفخت صدري، ونزلت عن المسرح، وابتسامة أمي التي استقبلتني بها، أطول من مترين، كيف لا، وابنها شاعر.
وبعد انتهاء الندوة لم أعد أعرف من سيقبلني ويهنئني من المتكلمين والجمهور، وكنت أزداد انتفاخاً، لدرجة أحسست معها، أنني سأنفجر إن لم أترك القاعة، فقلت لأمي:
ـ هيّا بنا الى البيت..
وبينما كنت أقطع المسافة الفاصلة بين منطقتيْ "وايلي بارك" و"ماريلاندز"، دار بيني وبينها حديث لن أنساه ما حييت، فلقد قلت لها واللعاب يتطاير من بين شدقيْ:
ـ أرأيت يا أماه كيف مسحتهم، كسحتهم، حطّمتهم. لقد وضعوا اسمي في الآخر، فوضعتهم في جيبي. ابنك الأول رغم أنوفهم.
فإذا بأمي تصفعني على فمي، وتصيح بأعلى صوتها، وهي تفتح باب السيارة كي تنزل منها، رغم سرعتها:
ـ أوقف السيارة، أنزلني هنا، لا أريد أن أكمل الطريق مع ابن مغرور، تافه، فارغ.
ـ إنهم يحاربونني، ألمْ تريْ كيف وضعوني في آخر البرنامج.
ـ لا يحارب شربل بعيني إلا غرور شربل بعيني.
ـ ولماذا تغتاظين إذا قلت عن نفسي "الأول"؟.
ـ ومن أنت حتى تكون "الأول"؟ فإذا كنت "الرابع" بين إخوتك الستة، فكيف ستكون "الأول" بين الملايين؟ أجل أنت الرابع بين أبنائي، وأشكر الله على ذلك، كي لا أكنى باسم ولد يحقّر الآخرين كي يرفع كعب حذائه.
ـ لا تفهميني غلط..
ـ بربك قل لي يا شربل: ماذا تريد منهم؟ أنهم رفاقك، زملاؤك.. هنأوك، قبّلوك، أشادوا بقصيدتك، وأبدوا كل احترام لك، فلماذا تغدر بهم؟ هل هذا جزاء محبتهم لك؟ أنت مريض يا بنيْ.. فساعد نفسك.. تخلَّ عن غرورك وتمسك بإبداعك. كرّم الآخرين كي يكرّموك.. مدّ يد المساعدة لكل من يطلب مساعدتك كي تصبح تينة مثمرة لا يلعنها أحد.
ـ ولكنك ضربتني يا أمي!
ـ وسأضربك مرة ثانية إن انت حقّرت غيرك لترفع من قدرك. موهبتك نعمة من عند الله، فلا تلوثها بغرورك. وتذكر دائماً يا ولدي أن الأدب فقر، لا يطعم خبزاً.
ـ أنا آسف يا أماه..
ـ عدني أن لا تزاحم أحداً، وأن لا تتكبّر على أحد، لأنك "تراب" في النهاية.
وما أن وطأت قدماي عتبة البيت، حتى أمسكت بورقة يتيمة وجدتها على مكتبي، ودوّنت عليها تلك العبارة التي نشرتها فيما بعد بكتاب "خواطر":
ـ منْ يشتُم يُشتَم، ومنْ يكرّم يُكرَّم
وبعد أن انتهيت من كتابتها، وجدت أمي واقفة ورائي، تقرأ ما كتبت، والابتسامة تتوج ثغرها الجميل، وتهمس في أذني ذلك القول المقدس:
ـ هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.
رحمك الله يا أمي كم كنت حكيمة.
**
فرخ فيلسوف
منذ مدة طويلة وأنا أحاول أن أكتب بعض مذكراتي مع أمي، علني أرد لها بعض الفضل، وكي يبقى ذكرها خالداً، لأنها طبّقت المثل القائل:"وراء كل رجل عظيم امرأة". وأعترف أن كل نجاح حصدته طوال رحلتي مع القلم كان بدعم منها.
واليكم قصتي الجديدة:
يوم كنت في الصف الثالث ابتدائي، قررت إدارة مدرسة الزاهرية في طرابلس، أن ترفعني من الثالث الى الخامس ابتدائي بسبب تفوقي الدائم على رفاق صفي، كي لا أقول "الأول".
انتقلت الى الصف الخامس، وتقدمت لشهادة "السرتيفيكا" ونجحت، فبدأت أقترب أكثر فأكثر من صف أخي جوزاف الذي يكبرني بسنتين وعدة أشهر، ولم يبقَ بيني وبينه سوى صف واحد، الى أن انتقلت الى "العالي ثانٍ"، هناك قرر جميع معلمي الصف الذين يدرسون مواد مختلفة أن أنتقل الى "العالي رابع" وأن أتقدم الى شهادة "البريفه"، فطلبوا اجتماعاً مع أهلي، فوافق أبي بسرعة هائلة، أما أمي فلم تنطق بكلمة.
وما أن دخلت الى "العالي رابع" حتى أجلسني مدير المدرسة الى جانب أخي الحبيب "جوزاف"، أي أنني لحقته في صفه رغم فرق العمر بيننا. وكان هناك، لحسن حظي وسوء حظه، أستاذ اسمه جليل بحليس من بلدة منيارة ـ عكار، يعلمنا مادتيْ التاريخ والجغرافيا وكان يؤلف الكتب التي يدرسنا بها، وتطبعها وتوزعها له، دون ذكر اسمه، دائرة المعارف اللبنانية، وكان، رحمه الله، يجلس في الصف طوال فرصة "الغداء" بغية تنقيح وإضافة معلومات الى طبعات كتبه الجديدة، وكان يعجب باتقاني الشديد للغة العربية، فسألني ذات يوم:
ـ ألا تلعب مع رفاقك؟ لقد راقبتك البارحة فوجدتك جالساً لوحدك في الملعب. العب مع أخيك جوزاف وان كان أكبر منك، فأنت بصف واحد معه. أو بإمكانك أن تجلس معي في الصف وتراجع ما أكتب، فإن وجدت أي خطأ ضع تحته خطاً أحمر، أو صححه لي. ما رأيك؟
لم أصدق ما سمعت، فقلت له باندهاش ظاهر:
ـ أنا أصحح لك يا معلمي!؟
ـ أجل أنت.. وأنا معجب بمقدرتك اللغوية.
ـ ولكنني تلميذك.. ماذا ستقول لباقي الرفاق؟.
ـ سأقول لهم: كونوا مثل شربل بعيني.
ولم يكتفِ الاستاذ جليل بحليس بهذا القدر من الاعجاب، بل راح يقول للطلاب إثر كل امتحان:
ـ ستقولون في يوم من الايام أننا تعلّمنا في صف واحد مع شربل بعيني.
وكان أخي جوزاف ينقل هذه الأخبار السارة الى أذن أمي بترونله، بغية إسعادها بنجاح أخيه شربل، وكانت أمي تتجاهل الأخبار المفرحة كلياً.
إلى أن أنبّ الاستاذ بحليس أخي جوزاف أمام باقي طلاب الصف، وقال له:
ـ كن ذكياً مثل أخيك شربل، ألم تأتيا من بطن واحد، ألم ترضعا نفس الحليب، فلماذا اذن علاماتك متدنية وعلاماته عالية؟
فأجابه أخي جوزاف:
ـ أنا أدرس أكثر منه، ومع ذلك تضع لي علامات سيئة.
وهنا وقع ما ليس في الحسبان، إذ التفت المعلم الى أخي وصاح بأعلى صوته:
ـ أتريد أن تعرف لماذا علاماتك أدنى بكثير من علامات أخيك شربل، لأنه "فرخ فيلسوف".
وكعادته حمل أخي جوزاف الخبر الى أذن أمي، فطلبت من جميع اخوتي أن يخرجوا من الغرفة، لأنها تريد أن تكلمني على انفراد، فسألتني، والغضب ظاهر على وجهها:
ـ هل سررت عندما سمعت توبيخ المعلم لأخيك، ومديحه لك.
ـ لا يا أمي، لأن أخي جوزاف صديقي الوحيد بين اخوتي، وهو يحبني كثيراً، ويفرح اثر كل اطراء يقدمه المعلم لي.
وفي اليوم التالي، وبينما كان الاستاذ بحليس يشرح لنا درساً جديداً، جاء ناظر المدرسة وهمس في أذنه كلاماً لم نسمعه، فطلب مني أن أراقب الصف كي يرد على مكالمة هاتفية هامة.
مر وقت طويل، والمعلم لم يأت بعد، وفجأة رن جرس فرصة الغداء، فخرج جميع الطلاب وبقيت وحدي في الصف أنتظر عودة معلمي لأكمل تصحيح بعض صفحات كتابه الجديد، فإذا به يدخل دون أن يعيرني اهتماماً، فسألته:
ـ هل أزعجتك المكالمة؟ أراك لا تكلمني.
ـ لا لم تزعجني، ولكنها أعطتني درساً لن أنساه.
ـ وممن كانت؟
ـ من أمك بترونله..
ـ أمي أنا؟
ـ أجل.. لقد طلبت مني أن لا أمدحك أمام أخيك جوزاف، خاصة عندما أوبّخه.
ـ أرجوك أن تسامح أمي، وأن لا تغضب مني أو من أخي، لأننا نحترمك كثيراً.
فقام ، رحمه الله، عن كرسيه، وقبلني على رأسي، وقال:
ـ أوصل هذه القبلة لرأس أمك، فلو كانت موجودة أمامي لقبلت رأسها شخصياً.
ـ ولماذا؟
ـ لأنها تخاف على وحدة أبنائها.. تريدهم أن يكونوا واحداً.. لا أن يدب التنافس والتناحر بينهم. ولقد اعترفت لها بخطإي فسامحتني.
ـ أنت يا معلمي طلبت السماح من أمي؟
ـ أجل، فلقد كانت على حق، وكنت أنا على خطأ، فلماذا لا أطلب السماح.
عندها وقفت وقبّلت رأسه، والدموع تنهمر من عيني، فإذا بأخي جوزاف يدخل الصف فجأة، فوجدني أبكي، فقال للمعلم:
ـ لقد أرسلت بطلبي يا سيدي، فهل قام أخي شربل بعمل سيىء، أني أراه يبكي؟!
فطلب منه المعلم أن يقترب أكثر، ليقبله على رأسه كما قبّلني تماماً، وليقول له:
ـ هذه القبلة ليست لك بل لرأس أمك.. قبّلها عني.
رحمكما الله يا استاذي الكبير جليل بحليس ويا امي الحنونة بترونله، فلقد كنتما القدوة الصالحة لي، وأطال الله بعمرك يا اخي وصديقي جوزاف، كي تبقى دائماً معي، تظللني بحبك وتشجيعك، كما كنت تفعل دائماً.
ولمعلوماتكم فقط، فلقد أهديت احد كتبي الى روح معلمي هذا وذكرت شيئاً من هذه القصة.
**
الاغتراب الابدي
القضية الوحيدة التي لا أحب أن أخبر أحداً عنها هي قضيتي مع الغربة.
قلت: قضيّتي، ولم أقل قصّتي، لأن مرافعاتي الطويلة المرهقة ضد الغربة، ما زالت أصداؤها تتردد في قاعة محكمة الضمير الانساني، الذي بدأ الصدأ ينخر خلاياه النتنة، بعد سكوته المشبوه المقرف عن حرب حصدت الأرض والمسكن والسكّان، ولم تترك لناً خياراً إلا الموت أو الرحيل.
وأذكر يوم ودّعت أهلي في أواخر عام 1971، كيف أجهشت أمي بالبكاء، وأخذت تقبّلني بنهم شديد، وهي تتأوّه وتقول:
ـ الى أين أنت ذاهب يا شربل؟ هل بإمكانك أن تجد بلاداً أجمل وأفضل من لبنان؟
ـ غربتي لن تطول يا أمي.. سنتان فقط وأعود.
ـ سنتان، سنتان، كلمة سمعتها مراراً من أخويك أنطوان وجورج اللذين سبقاك الى هناك. تصور أن عمّاتك وعمومتك هاجروا منذ عشرين سنة ولم يعودوا بعد!.
ـ وحياة عيونك سأعود.. صدقيني يا أمي.
ـ اخواك وعداني بالعودة.. وما زلت أنتظر..
ـ أنت تعرفين وضعي، والضغوط التي أعاني منها.
ـ كان بإمكانك أن تعيش "برواق"، من دون أن تجرح أحداً، أو تعاديه بكتاباتك.
ـ أريد رضاك يا أمي.. فبدونه لن أوفّق.
ـ ولمن ستترك وطنك، أهلك، أصحابك، ذكرياتك، مكتبتك، وكل الدفاتر التي كنت "تخرطش" عليها أشعارك.
ـ بخاطرك يا امي..
وأقسمت أن أعود، وحاولت جاهداً أن أكون صادقاً معها، وأن لا أخنث بوعد قطعته أمام عينيها الطاهرتين، وعلى مسمع من الرب. ولكن رياحي المادية جرت بما لا تشتهي سفني، فمرت السنتان مثل لمح البصر، ورسائل أمي تتكدّس في أدراجي حاملة في طيّاتها ألف ألف تأنيب وسؤال عن يوم الرجوع.
وفجأة تبدلت المقاييس بعد اندلاع الحرب اللبنانية اللئيمة، التي كانت قريتي الآمنة مجدليا مسرحاً لبعض فصولها، فأحرقت منازلها، وتشرد سكانها، وهاجر أهلي الى أستراليا، فانقطعت بذلك آخر صلة انسانية لي بالوطن، بعد أن سرقت الغربة معظم أقربائي، وقضى "الواجب الوطني" على من بقي منهم هناك.
والمضحك المبكي هو أن أمي التي كانت تلح علي بالرجوع، بدأت تتغيّر، وتجابهني بأسئلتها الكثيرة كلما فاتحتها بالموضوع:
ـ لعند مَنْ تريدني أن أرجع.. إخوتك وعائلاتهم هنا، وأهالي مجدليا استوطنوا أستراليا، وأصبح عمري على شفير الهاوية؟
ـ إذا قال كل واحد منا ما تقولين، ستبتلعنا الغربة الى الأبد؟
ـ .. والعصابات، والغش، والتزوير، والواسطة، والزعيم الذي تطالب كل من يصفّق له أن يقطع أصابعه تكفيراً عن فعلته الشنيعة. عش يا شربل هنا، لأنك ستقتل هناك.
ـ إذا عدتِ معي، أعدك أن لا أكتب.
ـ لا تكذب يا بنيّ، أنت مدمن على الكتابة.
ـ هذه هي مكاتيبك لي، إقرئيها، هل نسيت ما بداخلها من تأنيب لعدم عودتي الى لبنان.
ـ من يوم ركبت الطائرة بصحبة أبيك، لم أعد أذكر شيئاً.
ـ أبي كان يحلم بالعودة..
ـ لو بقي حياً الى يومنا هذا، ورأى المجازر التي تحصل هناك لغيّر فكره.
ـ رحمه الله.. مات وهو يردد اسم مجدليا وبيروت ولبنان.
ـ وأصبح قبره مزاراً نقصده كل أسبوع.. أتريدني أن أتركه وحيداً في قبره؟ هل جننت يا ولدي؟
ـ سأنقل جثمانه الى مجدليا.. إذا وافقت على العودة.
ـ وهل بإمكانك أن تنقل ثلاثين ابن وكنة وحفيد وحفيدة؟
ـ لا، بالطبع، هذا شيء مستحيل.
ـ إذن، اتركني أمت هنا، واقبرني قرب والدك.
وها هي الآن ترقد قرب أحب انسان الى قلبها، والدي سركيس بعيني. وصدقوني أن الغصة لا تفارق قلبي، فحبّي للبنان، ووفائي لهذه البلاد المضيافة، عوامل تتصارع في داخلي، وتقضّ مضجعي، لدرجة أصبحت معها أتساءل:
ـ هل كتب علي الاغتراب الأبدي؟
**
إيمان إمي صنع أعجوبة
في الثاني من ايلول يصادف عيد ميلاد امي المرحومة بترونله بعيني، فاسمحوا لي اذن ان أنشر هذه القصة الحقيقية كمعايدة لها في ملكوتها السماوي حيث يوجد الكاهن "رود براي" ايضا:
إذا كنتم لا تؤمنون بالعجائب أرجوكم أن لا تكملوا القراءة، وانتقلوا الى الفصل التالي، فلقد كنت مثلكم إلى أن حدث ما حدث.
ذات يوم زارنا الكاهن "رود براي" خادم كنيسة "سانت مارغريت ماري" في منطقة ماريلاندز، جرياً على عادته في تفقّد الرعية، فاستقبلته أمي بالترحاب، ومدت أمامه وليمة صغيرة مؤلفة من أطايب ما طبخت في ذلك اليوم.
وكان بين الفينة والفينة يمسح سائلاً لزجاً يسيل على جبينه، لدرجة لم يعد قادراً على ايقافه، فسألته والدتي بالعربية، وأنا أترجم له ولها:
ـ ما بك يا أبانا؟ أرى درنة كبيرة في جبينك؟
ـ انه سرطان جلدي خبيث، وسأجري عملية استئصال له بعد أسبوع.
ـ أتسمح لي بأن أمسح الدرنة بزيت مقدّس وصلني منذ يومين؟
ـ ومن أين جاءك الزيت؟
ـ من لبنان، من كنيسة مار رومانوس ـ حدشيت.
ـ لا مانع عندي البتة.
هنا، لم أعد أتمالك أعصابي، فصحت بها:
ـ لا يا أمي لا.. قد يؤذيه الزيت.
فأجابت وهي تغطّس القطنة بالزيت:
ـ مار رومانوس لا يؤذي أحداً.
فما كان من الخوري "براي" إلا أن نهرني قائلاً:
ـ شربل.. شربل.. خلّ إيمانك قوياً بربك. لو كنت تعرف قصتي مع العجائب لما فتحت فمك.
ـ ولكن الزيت قد يسبب لك التهاباً أو ما شابه.
ـ ألم أقل لك خلّ ايمانك قوياً بربك، فلماذا تحرمني من نعمة أرادت والدتك أن تهبها لي؟.. ماذا كنت ستفعل لو علمت أنني كنت مقعداً في بداية مشواري مع الحياة، وأن أبي وأمي باعا كل شيء يملكانه من أجل دفع تكاليف رحلة جوية من سيدني الى سيدة "لورد" في فرنسا، هناك حملني والدي ورماني في المياه المقدسة، فخرجت منها معافى، ولكنني لم أعد معهما الى البيت، بل قررت أن أخدم رب السماء والأرض، وأن أصبح كاهناً، وها أنا أمامك بصحة تامة. فاخرس اذن، ودع والدتك تكمل ما بدأت به.
وبعد أن رسم إشارة الصليب، انحنى أمام الزيت المقدس، وهو يتمتم بصلاة لم أفهم منها شيئاً، وبعد الانتهاء، ركع على ركبتيه، وأغمض عينيه، وقال:
ـ أنا جاهز يا بترونلة.
فمسحت أمي جبينه، وهي تردد صلاة لم أفهمها أيضاً، وكأنني أعيش في دوّامة من الحيرة والقلق والخوف.
انتهت عملية مسح الزيت، فوقف منحنياً، ولكن هذه المرة قبالة أمي، وقبّل يدها وقال:
ـ أنا واثق من أن الله سيشفيني على يدك أيتها السيدة المؤمنة.
أثناء النوم، أحس الخوري "براي" أن حرقاً قوياً يجتاح جبينه، فنهض من فراشه وتطلع في المرآة، فلم يجد تلك الدرنة السرطانية، فما كان منه إلا ان اخبر الناس في قداسه الصباحي عن أعجوبة حصلت معه في الليل، وأنه سيلغي موعد العملية الجراحية، لأن الله هو الطبيب الأعظم. ولكنه لم يخبرهم عن اسم السيدة التي مسحت جبينه كي لا يعرّضها لمضايقاتهم واسئلتهم الكثيرة.
ولكي تطمئن أمي أكثر على صحته، طلبت مني في اليوم التالي أن أذهب الى مكان سكنه واصطحبه ليتناول طعام الغداء معنا.
قرعت جرس البيت، فلم يفتح لي أحد، تطلعت نحو الكنيسة فوجدت بابها شبه مغلق، فعرفت أنه في الداخل، وقد تتعجبون اذا قلت أن المفاجأة عقدت لساني، وأجبرتني على الخروج من الكنيسة على رؤوس أصابعي كي لا ينتبه لي. فلقد وجدته مصلوباً على الارض تحت الصليب المرفوع فوق المذبح، وهو غارق بصمت قاتل، لولا تنفسه البطيء.
بعد ربع ساعة من الانتظار، خرج الكاهن القديس ـ هكذا صحت يوم مر جثمانه من أمامي بعد سنوات من وفاة والدتي ـ ليتفاجأ بوجودي، فقلت له:
ـ أمي بانتظارك على الغداء، تريد أن تطمئن عليك.
فأمسك بأحد أصابعي وقال:
ـ هات إصبعك يا شربل، لتصدق أن ايمان امك قد صنع أعجوبة.
الشيء الوحيد الذي أطلبه من والدتي الآن، هو أن تقوّي إيماني بالله تعالى، فلو كنت قويّ الايمان وقتذاك لما حاولت منعها من مسح جبين الخوري "براي"، وإتمام تلك الأعجوبة المقدسة التي حدثت على يدها الطاهرة، وشاءني ربي أن أكون الشاهد عليها.
**
أمي والكاردينال فريمن
عندما قرأ أخي الأصغر مرسال "أبو شربل" قصة والدته "بترونله" مع الكاهن "رود براي"، تطلع بي وقال:
ـ قصتك ناقصة يا أخي، فلقد نسيت أهم شيء فيها.
فقلت له بتعجب شديد:
ـ ما هو؟ أرجوك ذكّرني به.
ـ لقد نسيت أن تخبر القراء أن الكاهن "براي" أطلع رئيسه الكاردينال "جايمس فريمن" على الاعجوبة، واخبره أن أمي هي التي شفته بزيت مار رومانوس المقدس.. وأن الكاردينال طلب مقابلة أمي.. هل نسيت؟
لا لم أنسَ يا أخي، ولكني تركت تلك الزيارة التاريخية الى مقال آخر، سأبدأ به الآن.
بعد أعجوبة الزيت بأسبوع، اتصل بنا الكاهن "رود براي" وطلب موعداً رسمياً لزيارتنا على غير عادته، اذ كان يأتينا على حين غفلة، ساعة يشاء، فلقد كنا نعتبره فرداً من أفراد البيت بإمكانه أن يزورنا دون موعد مسبق.
إصراره على تحديد موعد رسمي حيّرنا جميعاً، فتجمعت العائلة البعينية حول أم العيال بترونله، ولسان حال كل واحد منا يردد:
ـ من سيأتي مع الخوري "براي"؟
فإذا بسيارة بيضاء تقف عند مدخل البيت ويترجل منها أعلى رجل في الكنيسة الكاثوليكية في سيدني: الكاردينال جايمس فريمن.
المفاجأة عقدت ألسننا، وما عدنا نعرف كيف نتصرف، فما كان من والدتي إلا أن اقتربت منه وقالت بإنكليزيتها الركيكة:
Welcome to my home
This is my family
هنا بدأ الأطفال الصغار يتراكضون نحوه، ويقبلون يده، كما أمرتهم أمهاتهم، وراح الخوري "براي" يعرّفنا بالكاردينال "فريمن"، ولماذا أراد مقابلة أمي:
ـ الكاردينال "فريمن" هو رأس الكتيسة الكاثوليكية في أستراليا، وقد اخبرته عن الاعجوبة التي حصلت معي، فأحب أن يتعرف على صاحبة الايمان القوي، السيدة بترونله بعيني.
ولم يدعه الكاردينال "فريمن" يكمل التعريف به، لتواضعه الجم، بل التفت الى أمي وسألها:
ـ لماذا تضعين هذا الطوق حول عنقك؟
فتنهدت أمي وقالت:
ـ عندما أخبرني الطبيب بأن رفيق عمري، ووالد أبنائي الستة سركيس بعيني، مصاب بمرض سرطان الدم "اللوكيميا"، أصبت بانهيار عصبي، وأحسست أنني أصبحت عاجزة عن المشي، فدخلت مستشفى "ويستميد" بذات الوقت الذي دخل به زوجي المرحوم اليها، وكانت عائلتي تتنقل من غرفة الى غرفة بغية الاطمئان علينا. وبعد أشهر من المعالجة، طلب الاخصائي اجتماعاً مع إبني البكر أنطوان، ليخبره، على مسمع مني، بأني لن أتمكن من المشي بعد الآن، واني بحاجة الى كرسي متحرك وإلى حمام خاص، ومدخل سهل للمنزل الى آخره.
وما أن انتهى من كلامه حتى قلت:
ـ أشكرك يا دكتور على اهتمامك بي، ولكن هناك من هو أهم منك وقد سلمته نفسي.
فاعتقد للوهلة الاولى انني سأعرض نفسي على اخصائي آخر، فقال:
ـ ومن هو هذا الطبيب.. هل أعرفه؟
ـ إنه سيدي ومخلصي يسوع المسيح.. هل سمعت به، أم أخبرك عنه أكثر؟
فلم يجب بحرف واحد، بل ودعنا وخرج.
وها أنا كم ترون أمشي وأتنقل من مكان الى آخر بدون كرسي متحرك، وهذا كله بفضل ربي.
فتطلع الخوري "براي" بالكاردينال "فريمن" وقال:
ـ هذا ما حصل معي عندما كنت شاباً.. هل نحن أمام أعجوبة جديدة يا سيدي.
فهز الكارديمال "فريمن" رأسه وقال:
ـ الايمان القوي يصنع المعجزات.
ثم اقترب من أمي وهمس في أذنها:
ـ أعجوبتك الكبرى يا سيدتي أراها الآن في هذه العائلة المسيحية المؤمنة التي تحيط بك من كل جانب، والتي سهرت على تربيتها في لبنان كي تتنعم بها أستراليا، أرجوك أن تصلي من أجلي.
وراح يودعنا واحداً واحداً حتى الأطفال، وهو يقول:
ـ لا تفرّطوا بإيمكانكم، تمسكوا به أكثر فأكثر، وخذوا من هذه الأم الطاهرة قدوة لكم، كي لا تتعثروا في الظلام.
ودعنا الكاردينال والكاهن، ولكن زياتهما المباركة، ما زالت تعيش معنا حتى اليوم.
**
هاجموني
خوف أمي علي كان في محله، إذ أنني سمعت مرة ثانية عبارة: "سد بوزك وغيرها من الشتائم"، في سيدني، أستراليا، وليس أمام سينما الريفولي في طرابلس كما حصل من قبل.
حدث هذا يوم أغضب البعض مقال نشرته عام 2005، في مجلة "إيلاف" الالكترونية الصادرة في لندن، بعنوان "حزب إسلامي في استراليا"، فلقد هاجموني عند مطلع الفجر، وراحوا يرمون البيض على سيارتي وحيطان وشبابيك بيتي، ومثل العادة، آخر من يعلم ماذا حصل هو البوليس، ومع ذلك زودني القائد برقم هاتفه، وطلب مني أن أتصل به على مدار الساعة، إذا هجموا عليّ مرة ثانية.
وقد تناقلت وكالات الاعلام العالمية الخبر، وراحت الاتصالات تنهمر عليّ من كافة اقطار العالم، ولكي تعرفوا ما حصل، أطلعكم على المقال الذي نشرته "بايلاف" أيضاً عام 2005:
سامح الله صديقي الشاعر شوقي مسلماني، فلقد نشر خبر الهجوم على منزلي صباح يوم الجمعة الواقع في 16 أيلول 2005، وهو يعلم أنني ضد تسريب الخبر إلى الإعلام بناء على رغبة البوليس الأسترالي الذي يحقق بالموضوع، ولكن محبته لي، هي التي دفعته إلى نشر الخبر، فألف شكر له.
لست أدري لماذا هاجموني، وإن جاء هجومهم على منزلي بعد يومين من نشر جريدة المستقبل الأسترالية لمقالي (حزب إسلامي في أستراليا) نقلاً عن إيلاف. صحيح أن اللغط دار حول هذا الموضوع، ولكنني لا أتهم أحداً، كما أنني لا أعتقد أن من طالب بنشر العدالة الإسلامية، والسلم الإسلامي، وأن حقوقنا لن تنتقص تحت راية حزبه، سيرسل مجموعة من الشباب المتحمس كي تشتمني، وتمطر بيتي وسيارتي بدزينات من البيض النيء.
القصة غير مفبركة، ويا ليتها كانت مفبركة، لتخلصت من رائحة البيض النتنة التي تغمر بيتي، وتسبب لي ألماً في رأسي، ناهيكم عن صعوبة غسلها عن الشبابيك والجدران والأبواب والقرميد ومدخل البيت.. والسيارة. فليسامحهم الله.
طوال الليل والأرق يقض مضجعي، فمساء الجمعة، أي يوم الهجوم، ستعرض مسرحيتي الجديدة (الكنز المسحور)، التي يمثلها أكثر من 500 طالب وطالبة من معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك، والتي ستنقلها إلى العالم أجمع قناة بانوراما الفضائية، فكيف لي أن أنام، وأنا المخرج والمؤلف لتلك المسرحية، وعلي أن أظهر وأخفي جيشاً كاملاً من الأطفال بأقل من ساعة ونصف، دون أن يلحظ الف شخص من الحضور ذلك، ولأنني كنت أتقلب كثيراً، وأضيء الغرفة كل نصف ساعة، لم تتمكن زوجتي من النوم أيضاً، فرحنا نتسامر ونضحك، إلى أن قلت لها: سأذهب إلى مكتبي، وأكتب مقالاً جديداً، فقالت لي، والله يشهد على ذلك: مقالاتك ستجلب لنا المشاكل.. وبعد نصف ساعة سمعت صراخاً وشتائم أخجل من ذكرها، وأن أحداً يحاول الدخول إلى منزلي المحمي جداً جداً، فقلت لزوجتي: هناك من يحاول الدخول إلينا، فتمتمت وهي تغالب نعاسها: نم.. أنهم الجيران.. مشاكلهم كثيرة لا تنتهي، فصدقتها، ودخلت الفراش ومع ذلك لم أرقد لحظة واحدة.
عند الساعة السادسة صباحاً، وهو الوقت الذي نستيقظ به بغية الإلتحاق بأعمالنا، خرجت لأدير محرك سيارتي المركونة أمام مرآب المنزل (الكاراج)، فصعقت من منظر البيض النيء الذي يغمرها، ويغمر معظم أرجاء البيت الخارجية، عندئذ أدركت أن الشتائم موجهة لي، وان الهجوم استهدفني شخصياً، فأعلمت الشرطة بالأمر، فاهتمت به كثيراً، واطلعت على بعض مقالاتي الأخيرة، وهي تعرف كيف ستتصرف.
هذا كل ما حدث، أرويه باختصار كي يعلم من هاجمني أن الكلمة لا تغلبها سوى كلمة أفضل منها، وأن الحوار أفضل بكثير من التخويف والإرهاب، وأن الله أوجدنا على هذه الأرض كي نتعايش، ونتفاهم، ونتأقلم مع محيطنا، وإلا أصبحنا نكرة، و(فزيّعة) نخيف الناس بدلاً من أن نستميلهم إلينا بالمنطق الراقي والحجج الدامغة. حماكم الله من زوار الفجر، ومن كل من يزرع في الأرض فتنة.
**
ممنوع التكلم بالعربية
هناك مثل لبناني يقول: الجار قبل الدار، ولكني في أستراليا ذقت الأمرّين من جارين، يسكن الاول قبالتي، والثاني الى يساري، وكانا وللأسف ضد المهاجرين الغرباء، أمثالي.
وذات يوم، وكان أخي جورج قد انتقل للسكن معي، زارنا إبن خالتنا بولس البحري، ورحنا ندردش معاً باللهجة اللبنانية، فإذا بـ"رون" الجار الذي يسكن قبالتي، والذي يبعد منزله عن منزلي قرابة 15 متراً، وقف أمام بابنا وصاح:
ـ توقفوا عن الثرثرة بلغتكم، أنتم في أستراليا، تكلموا الانكليزية.
وللحال تصدى له أخي جورج، وطرده من أمام بيتنا، وهو يقول له:
ـ نحن أحرار أن نتكلم اللغة التي نريد.. إذهب الى بيتك.
ولكي يخيفنا أكثر، اتصل بالبوليس، وما هي إلا لحظات حتى وقف أمامي شرطي أسترالي من أصل لبناني، هو ابن صديقي راشد الحلاب، رئيس تجمع المسنين العرب يومذاك، وكان بصحبة مرافق له، فاندهش حين رآني وقال:
ـ هناك شكوى ضدكم.. ما المشكلة؟.
فأجاب إبن خالتي بولس:
ـ جئت لزيارة أقربائي، ورحنا ندردش معاً بلهجتنا اللبنانية، فإذا بالجار العنصري، يهجم علينا ويطلب منا أن نتكلّم الانكليزية كوننا نعيش في أستراليا.
ـ في استراليا بإمكانكم أن تتكلموا اللغة التي تريدون، ونعتذر على الازعاج.
كان البوليس يتكلم معنا بكل مودة، والجار العنصري ينظر الينا من بعيد، ويتمنى أن يتم اعتقال أخي جورج، ولكن حساب حقله لم ينطبق على حساب بيدره، لأن الدم اللبناني ثار بداخل ابن الحلاب، فذهب إليه، وراح يؤنبه بصوت عالٍ، ويطلب منه أن يلزم بيته، وأن لا يهاجم بيوت الآخرين، وإلا تعرّض للمساءلة.
والظاهر أن هذا الجار لم يتعظ من الدرس الأول، بل راح يتصل بسيارات الاطفاء، كلما أشعلنا النار لشوي اللحم، وكان رجال الاطفاء يغضبون منه، ويعتذرون منا، خاصة عندما كنا ندعوهم لمشاركتنا بالطعام.
والانكى من هذا كله، أنه اتهمني بتجارة المخدرات، عندما بنيت أجمل فيللا عرفتها سيدني عام 1980. ونسي هذا المسكين أنني كنت أعمل ليلاً ونهاراً، كي أنفّذ الوعد الذي قطعه والدي لأمي، ألا وهو بناء بيت جديد لها.
ومع الايام، والشهور، والسنوات، بدأت نظرة هذا الجار إلينا تتغيّر، وبدأ يعاملنا بلطف، ويتودد إلينا كلما سنحت له الفرصة، وكنا نحن نعامله بحذر شديد.
وعندما دب المرض في أوصاله، راح يقضي معظم ايامه في المستشفى، فالشيخوخة لا ترحم ابداً، وكان ابنه الوحيد قد تزوج وانتقل الى مكان آخر، وبنتاه تزوجتا وانتقلتا للعيش مع زوجيهما. بقيت زوجته وحيدة وعاجزة على التنقل بين البيت والمستشفى، فإذا بها تدق على بابي وتقول:
ـ هل بإمكانك أخذي بسيارتك الى مستشفى "ويست ميد" كي أزور زوجي.
ـ بالطبع، بالطبع، تفضلي.
أثناء الطريق خيم صمت قاتل، سرعان ما تبدد عندما قالت:
ـ اتصلت بأولادي كي يأتي أحدهم ويأخذني الى المستشفى، فلم يلبِ طلبي أيٌّ منهم.
ـ لا تزعلي منهم.. كل واحد له ظروفه.
ـ لا، لقد اكتشفت أن الجار أهم من الابن.
فضحكت وقلت:
ـ ألم تتأخري لمعرفة ذلك؟
ـ بلى لقد تأخرت.
أما "نورم" جاري الثاني، فلم يكن أقل عنصرية من "رون"، فلقد تحملت مضايقاته لي كثيراً، إلى أن تصرف بحقد يوم وفاة والدي، وكانت الوفود تأتي الى بيتي للتعزية، وبدلاً من أن يشعر معي، أدار ماكنة قص العشب، وراح يصدر، عن قصد، ضجيجاً مزعجاً، لا بل كان يشتم كل من يتكلّم بصوت عالٍ.
ومع الوقت تعلّمت كيف أروّضه كالحصان، فجعلته أكثر تفهماً لعاداتنا اللبنانية، وبدأ يسبقني بإلقاء السلام.
وقد لا تصدقون إذا أخبرتكم، أن هذين الجارين قد توفيا ولم أعلم بذلك، إذ أنني لم أرَ سيارة دفن الموتى أمام باب أحدهما، وعندما سألت الأرملتين عن ذلك، أجابتا:
ـ كان وداعاً عائلياً صغيراً، لذلك لم نخبر أحداً.
هؤلاء هم جيراني الاستراليون، مروّا كسحابة صيف، عكس جيراني في "مجدليا" الذين رافقوني كأنفاسي، أو كنبضات قلبي، وأحبّوني كأهلي، لذلك أبقيت ذكرهم خالداً في عدة قصائد نشرتها في ديوان "إبن مجدليا".
**
الكتابة عاهة
قد تكون الكتابة عاهة لا يمكن التخلص منها، وقد أصابتني هذه العاهة في الصميم، لا بل يقولون انني ورثتها عن جدي وخالي جرجس ولوانس مارون، فالأول، أي والد أمي، أغنى مكتبات الكنائس بمخطوطاته السريانية، والثاني جمّل الترجمة والكتابة بأسلوبه الرائع. وبدلاً من ان أتربّى وأستكين، بدأت بتزويد مجلة الدبور البيروتية، عام 1972، بسلسلة مقالات بعنوان "أستراليا الحوت ونحن النبي يونان"، ولو كنت أعلم أن زلعوم (بلعوم) الحوت ضيق، وليس بإمكانه ابتلاع انسان، بل يبصقه حالاً، لغيّرت العنوان دون تردد.
مع بداية الحرب الاهلية، أصبحنا نملك الكثير من الجرائد أهمها: التلغراف، صوت المغترب، صدى لبنان، الوطن، والنهار، ومركزها مدينة سيدني، نظراً للعدد الكبير من الهاجرين الابرياء، الذين وصلوا إليها، بعد أن قذفتهم الحرب اللعينة، خارج محيطهم وبيئتهم وقراهم ومدنهم وعيالهن، فاخترت اثنتين منها لانشر بهما مقالاتي وأشعاري، فكانت صدى لبنان منبراً لقصائدي المحكية، وصوت المغترب لقصائدي الفصيحة.
والظاهر أن مواقفي الشعرية قد سبقتني الى هنا، فراح البعض من الشعراء والصحفيين يعملون جاهدين على محاربتي، ويروجون الشائعات حولي، وأن كتاباتي قبل سفري كانت السبب في اشتعال الحرب، وتناسوا أنني أول من نبهت إليها، وأن الطيور اللبنانية الشاردة، سترحل، وستصل الى الملكوت الاسترالي.. وها هم بدلاً من أن يشكروني، بدأوا بنشر غسيلي على السطوح.
وبالمقابل، كان هناك من يؤمن بمواقفي الوطنية الصادقة، وأن ما يهمني هو الانسان، أياً كان دينه، وأياً كان تحزبه. فالوطن بنظري بإمكانه، كالام، أن يحضن الجميع.
ولكي أروّج للأشرطة الغنائية، أصدرت جريدة تحمل إسم الشركة "صوت الارز"، وكنت أوزعها مجاناً على المحلات التي تبيع أشرطتي. ولكنها، وللأسف، توقفت بعد العدد الاول، ولم تعد ترى النور.
الجميل في الامر، أنني بدأت أتعرف على أصحاب المطابع الاسترالية، فقررت أن أطبع أول كتاب يطبع ويصدر في أستراليا بعنوان "مجانين"، عام 1976، صحيح أن الشاعرين عصام ملكي وسمعان زعيتر قد سبقاني بنشر كتبهما، وتوزيعها في سيدني، ولكن الطباعة كانت في لبنان، وليس هنا. وهذا هو الفرق.
ولكي أقوم بهذا طلبت من أخي جوزاف أن يرسل لي "دكتيلو" بسرعة البرق، مع أول مسافر.
طبعت القصائد على "الدكتيلو"، وهندست صفحات الكتاب، ورقّمتها بالارقام الهندية، التي نستعملها نحن كعرب، بدلاً من الارقام العربية التي سرقها منا الغرب، وضمها بكل فخر الى لغته.
بعد أسبوع اتصل بي صاحب المطبعة ، وقال:
ـ الكتاب أصبح جاهزاً، بإمكانك استلامه ساعة تشاء.
وما ان استلمت النسخة الاولى، حتى صرخت:
ـ ما هذا، لقد خلطتم بين الارقام والصفحات، فجاء الكتاب مضحكاً، وغير قابل للقراءة.
إعتذر مني صاحب المطبعة، وأمر بإعادة طبع الكتاب، شرط أن يكون تحت إشرافي، أو أن أستبدل الارقام الهندية (١٢٣) بأرقام عربية ـ غربية (123).
ومن عنوان "مجانين" تعرفون محتواه، فلقد أحرقت كل أوراق التين التي يغطي بها زعماء الوطن عوراتهم، وكشفتهم على حقيقتهم، وكيف بدأوا يقسّمون الوطن زواريب طائفية، هي أبعد ما تكون عن أخلاقية شعب لبنان.
لذلك بدأت الكتاب بهذه الابيات:
بؤمِنْ بِأَللَّـه.. وْعَيْبْ أَكِّدْ هَـ الإِيمَانْ
بؤمِنْ بِعِيسَى وْبِالرَّسُول كْمَانْ
بؤمِنْ بِإِنْجِيلِي وْبِالْقُرْآنْ
بؤمِنْ بِوِحْدِةْ شَعْبْ
عَاش بْرِضَى وِبْحُبّْ
عَ أَرْض لُبْنَانْ
ورحت ألقي قصائده في كل حفلة، أو ندوة، أو أمسية، أو عرس، أو مأتم، بغية توحيد شعب لبنان في مغتربه الاسترالي، وإبعاد شبح الفتنة عنه.
هنا، بدأ أعدائي يتلاشون تلقائياً، لا بل بدأوا بإطراء مواقفي الوطنية، ولو سألتم أي لبناني في ذلك الوقت العصيب، لاعترف صادقاً ان أشعار شربل بعيني قد وحدت الجالية اللبنانية في أحلك ظرف مر به لبنان.
**
التواضع
كانت أمي تطلب مني أن أردد هذه العبارة المقدسة أكثر من عشر مرات، قبل أن أندس في الفراش، واخلد للنوم:
ـ يا يسوع الوديع المتواضع القلب، إجعل قلبي مثل قلبك.
ولأنني لم أتقيد بهذه الصلاة، أهدتني تلك الصفعة التي حدّثتكم عنها سابقاً في فصل "صفعتني أمي". من بعدها اتخذت من التواضع طريقاً منيراً لا أحيد عنه مهما تقلبت الظروف.
وبسبب نشاطاتي الادبية الكثيرة، تعرفت على ما هب ودب ممن يدعون الأدب، فيسرقون كلمة من هنا، وعبارة من هناك، وقصيدة من هنالك، ويدعون بأن جبران خليل جبران أقل منهم شهرة ومقدرة.
والتقيت بأصحاب أدب رفيع، ولكنهم وللأسف، بلا أخلاق، يحاربون بعضهم البعض على تفاهات يخجل منها الأطفال. والويل ثم الويل إذا مدحت أحدهم، فلسوف يطير كالبلون في الهواء، إلى أن ينفجر من تلقاء ذاته.
ذات يوم، وبينما كنت أنقل الشاعر جان رعد، الذي غنى مع زغلول الدامور لسنوات طويلة، بسيارتي إلى مسكنه بالقرب من دير مار شربل ـ بانشبول، أوقفنا في الطريق أحد الشعراء، وما أن صعد الى السيارة حتى بدأ بإلقاء بعض قصائده، وبكل طيبة قلب، قلت:
ـ عظيم يا شاعرنا..
فإذا بالشاعر جان رعد يشد على يدي كي أصمت. وما أن نزل شاعرنا العظيم كما وصفته، حتى التفت إليّ جان وقال:
ـ لا تعطي العظمة لأحد، لأن ما من عظيم سوى الله. أتدري أنك ستخسر صداقة معظم الذين تمتدحهم، لأن الكثيرين منهم لا يستحقون المديح، وسينقلبون عليك.
وتعرّفت على شعراء يبيعون قصائدهم، وعلى شويعريين يتسابقون على شرائها، بغية إلقائها في المناسبات، أو نشرها في كتب يوقعونها بكل فخر وبلا خجل.
وحزنت كثيراً، عندما رأيت شاعراً من أجل رئاسة تافهة، ينشر الفتنة والشقاق بين الشعراء والادباء والفنانين، دون أن يرف له جفن، أو أن يخاف الله.
ولكني في نفس الوقت، التقيت بأدباء وشعراء، حفظوا ورددوا تلك العبارة المقدسة، التي علمتني اياها أمي، واتخذوا من التواضع نبراساً، فرفعت لهم القبعة.
لقد تعرّفت على نزار قبّاني (بدون ألقاب أدبية أو دينية أو أكاديمية) فتعلمت منه الشجاعة بالشعر، ولقبني بالديك الرائع، أما عبد الوهّاب البياتي فلقد طلب مني أن أكتب وأكتب كي أتغلب على غربتي. محمد زهير الباشا لقبني بالملاح الذي يبحث عن الله، ومنحني نعمان حرب لقب شاعر العصر في المغتربات، ويحيى السماوي عميد أدباء المهجر، ورماني مصطفى الحلوة بين الفصحى والعامية، فاحترت أيهما أختار، وفي غربتي الطويلة أضاءتني بهية ابو حمد منارة للحرف، ورسمتني مي الطباع قصيدة غنتها القصائد، تماماً كما وصفني يوسف الجزراوي برسام الكلمات وانطون انطون بقديس الشعر.
أيقونة أدب جاءتني من نعيم خوري، وعصام حداد صيّرني جائزة، وكمال العيادي ملكاً أبيض، وعصام ملكي زينة الشعراء، ومفيد نبزو شاعر أمتي، وزين الحسن فخر الشعراء، وشوقي دلال قيمة لبنانية، وجورج كريم سفيراً فوق السفراء، وطوني شربل سيف الادب المهجري، وأيوب أيوب شاعر المهجر الاول، وإياد قحوش شاعر الشعراء، ورفيق الدهيبي نابغة المهجر، وغسان منجد قبطان الشعر، وسركيس كرم أستاذ الكل، وحميد عواد جوهرة أدبية، وتريز حرب شاعر الغربة الطويلة، وجوزيف الحايك أمير الشعر في بلاد الانتشار، وبطرس عنداري ظاهرة مميزة، وسامي مظلوم قمر الكلمة، وفادي الحاج أرزة مزروعة بالاغتراب، وسوزان بعيني نسر مجدليا المحلق، وعلي بزّي رائد المسرح الطفولي.
أما محسن ادمون يمين فلقد اعترف بان الزمن لا يجود بمثل شربل بعيني كل يوم، واعتبر رفيق غنوم نفسه محظوظاً كونه يعيش في عصر شربل بعيني، وطالبني سايد مخايل بترؤس الرابطة القلمية الثانية، وكتب يوسف سعيد بأن شربل بعيني هز المربد الشعري الثامن في العراق، وحذر عبده خليفة من الخطابة بوجود شربل بعيني كون من يلقي قبله سينساه الجمهور ومن يلقي بعده لن يستمع اليه. ووصفني كامل المر بأحد أهم شعراء العربية في زمننا هذا، وأحمد الياسري بمحطة من محطات الشعر العربي.
مروان كساب لقبني بعبقري الغربة، وألبير وهبة برائد الحركة الادبية، وفاطمة ناعوت بالفتى الذي يقطر شعراً، وسوزان عون بسفير شعراء المهجر، وروميو عويس بسلطان ساحات الأدب، وميلاد اسحق بملك الشعر، وفؤاد نعمان الخوري بطاحون النشر، وشيبان هيكل بعاشق الحرية والانسان الانسان.
معظم هؤلاء الكبار لم يلتقوا ببعضهم البعض، لا بل يعيشون في بلاد مختلفة، ومنهم من لم ألتقِ بهم أبداً، ومع ذلك رفعوني بتواضعهم الغامر الى أعلى درجات السمو، فلكل كبير منهم، أحني رقبتي، وأعلن احترامي.
ذكرت بعض الأسماء، كي لا أطيل الشرح، كون جميع ما قيل عني منشور في موسوعة شربل بعيني بأقلامهم للأديب كلارك بعيني. ولكني أحببت أن أركز على الالقاب التي ذكرت، لأن بعض اللصوص الأميين التافهين بدأوا بسرقتها، ومنحها لأشخاص أكثر منهم تفاهة.
أجل، لقد بدأ البعض يطمع بألقابي، ويشرفني أن أتنازل عنها لمن يستحقها عطاءً وأبداعاً، ولكن الطامعين بها لا علاقة لهم بالأدب لا من قريب ولا من بعيد، انهم بؤرة نذالة ليس إلا.
**
لا للنيابة.. نعم للبطريرك
قد تقولون أنني أبعد ما أكون عن التواضع إذا أخبرتكم أنني كرّمت في حياتي عشرات المرّات، وتسلمت عشرات الجوائز والشهادات التقديرية، ونشرت عشرات الكتب بالفصحى والعامية.
عام 1985، قرر قنصل لبنان العام في سيدني الدكتور جان ألفا منحي جائزة الارز الادبية، وكانت أول جائزة أحصل عليها، تقديراً لأعمالي الأدبية.
هناك، في دار القنصلية اللبنانية في سيدني، اصطف رئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز السيد نيك غراينر، والعديد من وزارئه، وشخصيات الجالية الدينية والمدنية، للاستماع الى قصيدتي التي كنت ألقيها باللهجة اللبنانية، وسط تصفيق الاستراليين قبل اللبنانيين، لأنني، كما قلت سابقاً، ألجأ الى الالقاء المؤثر، الذي يدخل الى القلوب قبل الآذان.
وهذا ما جعل السيدة سميرة زوجة القنصل العام، تنهار وتبكي بغزارة، وأنا أعدد صفات أمومتها المتنقلة من بلد الى بلد.
الكاميرا صورتها، رغم محاولتها إخفاء بكائها بوضع يدها على عينيها، وحني رأسها الى الامام.
بعد الانتهاء من الكلام، اقترب مني الرئيس نيك غراينر، وقال على مسمع القنصل العام:
ـ لم أفهم شيئاً مما قلت، ولكنني أعجبت بوقفتك المسرحية الواثقة وانت تتكلم، وأعجبت أكثر بإلقائك الشيق. أنا بحاجة الى شاب لبناني مثلك، ليتقدّم للنيابة في منطقتك، ومن يدري فقد أختارك وزيراً أيضاً. الجالية اللبنانية كبيرة، وتستحق تمثيلاً نيابياً يليق بها.
ـ ولكني أكره السياسة، ولا أحب التعاطي بها، لذلك أرجوك أن تفتّش عن غيري.
هنا نكزني قنصلنا جان ألفا وقال:
ـ لا تدع هذه الفرصة تفوتك.. إسمع كلامه واعمل بارشاداته. هذه فرصة تاريخية لا تضيّعها.
ـ أنا آسف يا دكتور جان، أفضل لي الف مرة أن أبقى شاعراً حراً، على أن أصبح سياسياً مقيداً بقرارات حزبية.
وأعتقد أنني قد اتخذت القرار الصحيح، فلكم حطمت السياسة الاسترالية من سيايين لبنانيين دخلوها فأدخلوا السجن.
ولم أرفض النيابة فقط، بل رفضت ايضاً رئاسة الجامعة اللبنانية الثقافية في سيدني، فلقد قرع جرس البيت ليلاً، فإذ على الباب السيد جان (حنا) رومانوس كرم برفقة بعض الرجال، وما أن دخلوا عتبة الدار حتى التفت إلي السيد كرم وقال:
ـ تعال معا، نريد أن ننتخبك رئيساً للجامعة بإجماع الأكثرية.
فأجبته بهدوء:
ـ أنت تعلم يا جان أنني أكره المراكز على أشكالها، لذلك إسمح لي أن أرفض طلبك بكل محبة واحترام.
فقال أحد الرجال:
ـ ألا تريد أن تخدم وطنك؟
ـ بلى، ولكني سأخدمه بالشعر فقط.
مشهد البكاء تكرر عندما زارنا غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، عام 1993، ولتعلموا ما حصل، سأترككم مع هذا الخبر الذي نشرته المعلمة مها بشارة في جريدة البيرق، العدد 728، 11/11/1993:
كنت أقف على بعد أربعة أمتار من المسرح الذي اعتلاه غبطة أبينا البطريرك مار نصرالله بطرس صفير مع مطارنتنا وكهنتنا وراهباتنا الفاضلات، أثناء زيارته لمدرسة سيدة لبنان ـ هاريس بارك، والحق أقول: انني كنت أراقب قسمات وجهه القدسية بتمعن فضولي، فإذا بي أفاجأ بالدموع تنهمر غزيرة من عينيه، وتتلألأ بكبرياء على وجنتيه الطاهرتين، وهو يستمع الى قصيدة الافتتاح التي ألقاها الشاعر شربل بعيني، والظاهر أن المفاجأة قد هزّت شربل لدرجة أجبرته معها على الاعتذار من غبطته، والتوقّف عن الكلام، بعد أن قال: نحنا بدنا نفرحك يا سيدنا ما بدنا نبكيك. وهنا، أومأ له غبطته لمتابعة القصيدة الرائعة.
وبما أنني أبتعد عن نشر القصائد في هذه السيرة، كي لا أطيل السرد، وأختصر قدر المستطاع، إذ أن هذه القصيدة التي أبكت البطريرك وغيرها المئات منشورة على الانترنت كتابة وفيديو مصور، وما على القارىء سوى الرجوع اليها ساعة يشاء.
وقبل أن أختم أحب أن أذكر أن السفير اللبناني لطيف أبو الحسن كرّم غبطته في السفارة، وكنت أنا من بين المدعوين، فأحب أن يعرفني على غبطته، فابتسم وقال:
ـ أعرفه، فلقد أبكاني بقصيدته الرائعة.
فقلت:
ـ أعتذر يا سيدي إذا كنت قد أزعجتك.
ـ لم تكن المرة الأولى التي أبكي بها، فلقد بكيت وأنا أرى أطفال لبنان اليتامى وهم يمرون أمامي في مسيرة صامتة.
ـ حنانك غامر يا سيدي..
ـ كان عليّ أن لا أبكي.
بعد سبع سنوات من هذه الحادثة، زرت لبنان عام 2000، فطلب مني صديقي الدكتور عصام حداد أن نزور البطريرك في بكركي، فوصلناها عند الساعة الثانية بعد الظهر، ولما دخلنا، استقبلنا أحد الخوارنة، وقال:
ـ البطريرك يستريح في هذا الوقت، خذوا موعداً في وقت آخر.
فقال له عصام:
ـ أخبره أن الشاعر شربل بعيني جاء من أستراليا ويحب أن يراه.
دخل الكاهن وخرج بسرعة البرق، وقال:
ـ سيدنا بانتظاركم.
وكنت قد سمعت الكثير عن أن البطريرك يتنعم بذاكرة قوية لا تخطىء، وقد صدقت ما قيل، لأنه عندما رآني، قال وهو يضحك:
ـ إيّاك أن تبكيني مرة ثانية.
ـ أما زلت تذكر يا سيدي.
ـ وكيف أنسى، فالدموع تكتب قصتك أفضل من الحبر.
وها أنا يا سيدي أكتب سيرة حياتي بالدمع والحبر، وأرجو أن أوفق.
**
المربد الشعري
عام 1987، دعتني وزارة الثقافة العراقية، أيام الرئيس صدام حسين، الى المشاركة بالمربد الشعري الثامن، وكانت قد سبقتني الى هناك، قصيدتي الشهيرة "لعنة الله علينا"، كما كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من الملكوت الاسترالي، بعد 16 سنة من الاغتراب.
هناك، بدأت الوفود الثقافية تصل من بلدان مختلفة، حاملة الى المربد الشعري أكثر من ألف شاعر وشاعرة. وكان ضمن وفد لبنان الدكتور عصام حداد، مدير معهد الأبجدية في مدينة الحرف جبيل، ومؤسس جائزة شربل بعيني الأدبية عام 1993، وكانت أول عبارة تحذيرية قذفها في أذني:
ـ إياك أن تقرأ اللعنة..
وبالطبع لن ألقي في أحتفال ضخم قصيدة قرأها الآلاف حول العالم، وانتشرت كالنار في الهشيم. وتقديراً لي، كوني كنت الوحيد الذي ضمه وفد استراليا، طلبوا مني أن أفتتح إذاعة المربد بكلمة ارتجالية، ففعلت، وفي المساء، ستبدأ فعاليات المهرجان، فقررت أن أحمل قصيدتي في جيبي، وأن أذهب الى صالة الرشيد في بغداد، وكم كانت دهشتي عظيمة، حين طلبني عريف الأمسية الى افتتاح الالقاء الشعري، فوقفت وألقيت قصيدة جديدة عنوانها: أرض العراق أتيتك.
وكانت تحتوي على مقاطع متعددة من الحداثة الشعرية، والاوزان الخليلية، والعامية اللبنانية. أجل لقد جمعتها كلها في قصيدة واحدة، من الصعب جداً أن تتخلى عن مقطع واحد منها، فلقد كانت متماسكة ببعضها البعض، لدرجة أذهلت النقاد، وأعلن الدكتور العراقي الأب يوسف السعيد أن شربل بعيني قد هز المربد الشعري الثامن في العراق.
وفي المربد جمعتني صداقة قوية بالشاعر عبد الوهاب البياتي، والناقد نسيب نمر، والدكتور عصام حداد، والشاعر اليمني محمد الشرفي، وغيرهم الكثير.
صحفي لبناني واحد، بدد فرحتي، فلقد اقترب مني وقال:
ـ أريد أن أكتب عنك مقالاً في جريدة النهار البيروتية، إذا سمحت، وسأقوم بتسجيل كلامك على كاسيت كي يصل بصدق الى القراء.
فأجبته، وكان يقف بقربي ملاكي الحارس الدكتور عصام حداد:
ـ لم آتِ الى هنا من أجل الشهرة، فلقد جئت كي أشم هواء العراق، وأزور مدينة بابل الغارقة في التاريخ، بعد هجرة طويلة.
ـ إسمع مني ستشتهر كثيراً، فجريدة النهار من أقوى الجرائد.
ـ أعرف هذا، فلقد كنت أنشر بملحقها الاسبوعي بعض قصائدي.
ـ إذن، فلنبدأ..
فتطلعت بالدكتور عصام وسألته عن رأيه، فأخذني جانباً وقال:
ـ أنا لا أثق بهذا الرجل، ولكن ما عليك سوى أن تجرّب.
فاقتربت من الصحفي وقلت:
ـ بإمكانك أن تسألني عن كل ما يخطر في بالك. أنا جاهز.
ولكم كانت دهشتي عظيمة عندما قال:
ـ أتدري أنني أدفع ثمن الكاسيت من جيبي، وأنني أسهر الليالي بغية تفريغ الحديث الذي أسجله.
ـ طيب، وماذا تريدني أن أفعل؟
ـ إدفع لي 300 دولار كمساعدة..
ـ ماذا؟!
ـ يا أخي 200 دولار..
فجذبت الدكتور عصام حداد من كتفه، وقلت:
ـ دعنا نذهب، وإلا سأضربه.
هذا الصحفي الذي أخجل من ذكر اسمه، علمت فيما بعد أنه لا يعمل في جريدة النهار البيروتية، بل يكتب فيها بين الحين والآخر، فراح يستغل اسمها لابتزاز الشعراء، لذلك عندما رشحوه، بعد سنوات، للفوز بجائزة جبران العالمية في سيدني، حرمته منها باتصال هاتفي واحد. وقد أخبرني الدكتور عصام ان الصحفي الجشع قد فقد صوابه، عندما وصله خبر سحب الجائزة منه، وراح يصيح:
ـ وراء هذا العمل شربل بعيني، لقد أخذ بثأره مني.
لست أدري كيف انتشر خبر ابتزازه لي بين المدعوين الى المربد، فاقترب مني الاعلامي اليمني أحمد الأشول، وسألني بكل لطف إن كان بالامكان إجراء مقابلة صحفية معي لصالح جريدة الثورة.
وقبل أن أفتح فمي، قال:
ـ ستكون مجانية، فنحن لا نبتز الشعراء.
وبعد الانتهاء من اللقاء المطوّل، سألني:
ـ اللقاء شيق للغاية، ولكن هناك شيء يجب أن نحذفه.
ـ ما هو؟
ـ خبر عملك كحمّال في المصنع الاسترالي، أعتقد أن هذا لن يليق بك كشاعر مشهور.
ـ إسمع يا أخي أحمد، إذا حذفت هذه القصة إحذف اللقاء كاملاً، أما إذا ابقيتها، فأرجو أن تكتب هذا العنوان بالخط العريض: لقاء مع الشاعر شربل بعيني الذي عمل حمّالاً في أستراليا.
**
السائق الضابط
جمعتني الصدفة في العراق يالصديق إياد الزاملي، صاحب موقع "كتابات" الالكتروني، فلقد كان تلميذاً جامعياً، يتنقل بين الوفود بغية التعرف على الشعراء والادباء، وكان المشرفون على المربد، قد خصصوا لي غرفة خاصة، خلال رحلة قمنا بها الى مدينة الموصل، فإذا بالباب يقرع أثناء الليل، ويقف أمامي إياد ويقول:
ـ هل بالامكان أن أبيت معك الليلة؟
ـ بالطبع، تفضّل.
لم أخف منه بتاتاً، لا بل فرحت لوجود شخص آخر يسليني في الغرفة، وبعد ساعة من التعارف، تطلع بساعته وقال:
ـ حان وقت الصلاة، سأصلي خلفك يا أستاذ..
فقلت له:
ـ لقد عرفتك بنفسي منذ قليل، وأخبرتك أن إسمي شربل.
ـ أجل، ولكني لم أسمع بمثل هذا الاسم من قبل.
ـ ألم تسمع باسم القديس اللبناني شربل مخلوف؟
ـ أنا آسف، سامحني أرجوك.. سأصلي لوحدي.
بعدها، لم يعد يفارقني، بل بدأ يأخذني الى أماكن عديدة في العراق، مثل الجامعات، والاسواق الشعبية، ودور السينما. أجل لقد شاهدت فيلماً هنديا في بغداد.
وكان هناك سائق شاب موكل من قبل ادارة المربد، أن ينقلني من الفندق الى الفعاليات الأدبية الموزعة في قاعات عديدة.
وكان هذا السائق يضع صورة ابنته الصغيرة على الزجاج الامامي للسيارة، كي لا تفارق ناظريه.
ـ هل هذه الطفلة الملاك ابنتك؟
ـ إنها روحي.. انها حياتي.. انها بهجة عمري..
وراح يخبرني عنها ودموع الابوة تترقرق من عينيه، وكنت كلما سنحت لي الفرصة أشتري هدية لها.
كنت أعتبره سائقاً يركض وراء لقمة عيشه، إلى أن أخذني الى مطار بغداد الدولي، عند الساعة الرابعة صباحاً، بغية الرجوع الى أستراليا.
ولسوء حظي، كان المفتشون يعاملون المسافرين بقسوة، لأن اثنين من الجالية الماليزية حاولا خطف طائرة قبل يومين، فاستُنفِرَ الجهاز الأمني، وراح يشد الخناق على المسافرين. إلى أن جاء دوري، فاقترب مني أحدهم وراح يفتّشني، دون أن يأبه بالبطاقة الصغيرة التي أضعها على صدري، التي تثبت أنني ضيف وزارة الثقافة العراقية.
هو يفتّش، والسائق، والد الطفلة، يقف بجواري صامتاً، وكنت قد وضعت في جيبه كل ما تبقى معي من دنانير عراقية، إلى أن شد المفتش بقسوة على خصيتيّْ، فصرخت من الألم وقلت:
ـ كنت أتمنى أن أترك العراق والفرحة تغمرني، أما الآن فقد أهانني العراق.
هنا التقت السائق الى المفتش وقال:
ـ هذا الانسان الواقف امامك ضيف العراق، وأنت أهنته.
ـ ومن أنت حتى تتكلّم معي بهذه الطريقة؟
فإذا بالسائق يزيح طرف سترته، ليرى الموظف البطاقة المعلقة في الداخل. فصاح والخوف يتملكه:
ـ سيدي، أنا آسف، كنت أنفّذ الاوامر فقط.
ـ إذهب، وانده إحدى المضيفات كي تفتح صالون الشرف لضيفنا الغالي، علّه يسامحنا، وهو يعلم تماماً أن المسامح لكريم.
**
من ستغتال في أستراليا؟
مطار سيدني، عكس هذه الايام، كان يقفل أبوابه عام 1987، عند الساعة الخامسة والنصف مساء، وقد وصلت طائرتي عند الساعة الرابعة بعد الظهر.
ذهبت الى غرفة استلام الحقائب، ورحت أنتظر وصول حقيبتي دون جدى، فإذا بضابطين رفيعي المستوى يقفان أمامي ويقولان:
ـ تفضّل معنا..
ـ إلى أين؟
ـ ستعرف عندما نصل.
دخلت غرفة صغيرة، فوجدت في منتصفها حقيبتي، وقد تجمع حولها أربعة ضباط، فسألني أحدهم:
ـ هل حزمت حقيبتك بنفسك؟
ـ أجل، ولكن زارني العديد من الاصدقاء لوداعي في غرفة الفندق.
ـ وهل تعلم ما يوجد داخل الحقيبة؟
ـ أجل ثيابي وبعض الهدايا..
وفجأة، فتحوا الحقيبة وسحبوا منها بذلة عسكرية، كانوا قد أهدوني إياها قبيل سفري من بغداد الى منطقة "خانكين" الحدودية مع إيران، حيث التقطت العديد من الصور مرتدياً إياها، وأنا ألقي هذه القصيدة، على خط النار:
مَنْ قَالَ: دِجْلَةُ وَالْفُراتُ
يُغَذِّيانِ بِماءِ طُهْرِهِما الْعِراقْ
كَيْ تَشْمَخَ النَّخلاتُ كَالأَبْطالِ؟
هَلْ فِي الْكَوْنِ أَبْطالٌ كَأَبْطالِ الْعِراقْ؟
الزَّارِعِينَ الرُّوحَ آياتٍ
وَراياتٍ
عَلَى شَطِّ الْعِراقْ
الْحارِقِينَ الْعُمْرَ إِيماناً
لِكَيْ يَتَطَيَّبَ فِيهِ الْعِراقْ..
وَالسَّاكِبِينَ دِماءَهُمْ
كَيْ تَمْحُوَ الآثَامَ
عَنْ وَجْهِ الْعُرُوبَةِ
.. وَالنِّفاقْ
ونسيت ان أخبركم أن قصيدتي المربدية "أرض العراق أتيتك" كانت تذاع كل ليلة بعد الانتهاء من قراءة نشرة الاخبار، بناء على طلب الآلاف من أفراد الجيش العراقي.
وأذكر أن القائد هناك أحب أن يكرمني، فدعاني الى رحلة بجيبه العسكري على الطريق الفاصل بين العراق وإيران، وكانت دبابة إيرانية ترافقنا طوال الرحلة على الجانب الآخر من الطريق.
أما الضابط الاسترالي الذي سحب البذلة العسكرية من الحقيبة، فقد رفعها بوجهي وصاح:
ـ أخبرنا، من ستغتال في أستراليا؟
ـ أنا أستاذ لغة عربية في معهد سيدة لبنان، وسجلي نظيف، وأنتم تعلمون ذلك؟
ـ من درّبك ومن أرسلك؟ ومن هو الضحية المزمع اغتياله؟
ـ هذه البذلة أعطوني إياها كي ألقي قصيدة للجيش العراقي على الحدود مع إيران، واسمحوا لي أن أريكم الصور.
وراحوا يقلبون الصور، وهم يتطلعون ببعضهم البعض، وأخيراً اقتنعوا ببراءتي، وقبل أن يخلوا سبيلي قال أحدهم:
ـ هذه البذلة هدية من الجيش الامريكي للجيش العراقي، وللأسف جيشنا الاسترالي لا يملك بجودتها.
في هذه الأثناء، كان المطار قد أقفل تماماً، وغادره المسافرون والمستقبلون، إلاّ أمي. فكانت تسأل كل من خرج:
ـ أرأيت ابني شربل؟ هل هو في هذه الطائرة؟
وكان الجواب يأتي سلبياً، فارتفع ضغطها من شدة الخوف عليّ، وما أن رأتني خارجاً حتى كاد يغمى عليها، فصاحت:
ـ أين كنت؟ ولماذا تأخرت؟
ـ سأخبرك في البيت، وأتمنى أن تكوني قد حضرت عشاء لذيذاً، فأنا جائع.. جائع.
القصة لم تنتهِ هنا، لأن المخابرات الاسترالية قررت التنصت على هاتفي المنزلي، وكنت أشعر بذلك كلما تلقيت مكالمة، إلى أن اتصل بي الاستاذ فؤاد نمور، وأخبرني أن ابن أخيه القادم من الاردن يريد أن يتعرّف عليّ، فسألته بكل براءة:
ـ وماذا يعمل ابن اخيك؟
ـ إنه رئيس المخابرات الاردنية
ـ على الرحب والسعة.. أنا بالانتظار.
وانتظرت ساعة، ساعتين، ولم يأتِ أحد، عندها قررت الاتصال بفؤاد لأسأله ماذا حدث؟ فصاح بأعلى صوته:
ـ تلفونك مراقب.. لقد جاء عدة أفراد من المخابرات الاسترالية، وأخذوا ابن اخي للترفيه، بعد أن عاتبوه لوصوله الى سيدني بطريقة سرية، كونهم تدربوا معاً في لندن.
وبدلاً من أن أحزن فرحت، لأنني سأطلب من زائرنا الاردني الكريم كي يتواسط مع المخابرات الاسترالية كي يزيلوا التنصت عن هاتفي، وهكذا صار.
**
عصابات الفنادق
دعوتي لزيارة العراق، وصلتني مصحوبة ببطاقات السفر: من سيدني الى بغداد، ومن بغداد الى سيدني، والشركة التي أوكلوا اليها حجز الطائرات والفنادق كانت "كوانتس"، المشهورة جداً في عالم الطيران.
من سيدني الى بانكوك، أقلتني طائرة "كوانتس"، هناك وجدت شخصاً بانتظاري، ليصحبني الى فندق تعيس ومخيف، فلقد تعرّض باب الغرفة التي وضعوني بها، للكسر عدة مرات، فلم أنم طوال الليل، خوفاً من اللصوص.
من بانكوك الى بغداد أقلتني الطائرة العراقية، فوجدت الفرق شاسعاً بين الطائرتين، الاولى حديثة، يعمل عليها طاقم خبير جيد، أما "العراقية" فكانت بحاجة الى ترميم كلي، ورغم جلوسي وحيداً في جناح رجال الاعمال، لم أجد شيئاً يعمل على الاطلاق، فبرادي الشبابيك معطلة، وكراسي الجلوس لا تتحرك، وحيطان الطائرة تهتز، وتطلق صوتاً مزعجاً لا بل مخيفاً.
ناديت المضيف الوحيد الذي يعمل في الجناح، وسألته:
ـ ما بها هذه الطائرة؟ لا شيء يعمل بها، ألا تخاف من ركوبها؟
فأجاب:
ـ كما تعلم نحن بحرب مع ايران، فبدلاً من أن نصلح طائراتنا نخصص المال للمجهود الحربي.
وصلت بغداد، وكان في استقبالي موظف أقلني بسيارته الى فندق الشيراتون الفخم، الذي يستحق ستة أنجم بدلاً من خمسة.
وعندما حان وقت الرجوع، أقلتني "العراقية" الى بانكوك، وكانت نوعاً ما أفضل من سابقتها، هنك خفت من أن يكونوا قد حجزوا لي ذلك الفندق المخيف، ولكن لا، الفندق هذه المرة، فخم وآمن، وفي نفس الوقت لص، أي أنه اتفق مع شركات نقل الركاب الى المطار، كي لا يأتوا في الوقت المناسب، فتطير الطائرة ويبقى الزبون مدة اطول.
في صالون الفندق سمعت أن العديد من النزلاء بدأوا ببيع أشيائهم الثمينة الخاصة كي يسددوا اجار غرفهم. ولم أكن أعلم أنني سأكون الفريسة الجديدة، إلا عندما تأخر السائق الذي سينقلني الى المطار.
ولولا وجود أناس يحملون في جمجمتهم ضميراً إنسانياً حياً، لانهار الكون على ساكنيه، فما أن اقتربت من إحدى العاملات لأسألها عن سبب تأخر السيارة التي ستقلني الى المطار، حتى همست في أذني:
ـ خذ تاكسي، لا تبقى هنا، موقف التاكسي أمام الفندق.
شكرتها، وتمنيت لو أقبّل جبينها، فحملت حقيبتي، وركبت التاكسي، وقلت للسائق:
ـ لا تضع العداد، قل لي كم تريد، كي أدفع لك؟
ـ خمسون دولاراً..
ـ سأعطيك مئة دولار، شرط أن تصل المطار قبل إقلاع طائرتي.
ووصلت، والله وصلت، قبل إقلاع الطائرة بعشرة دقائق، فاستقبلتني إحدى مضيفات "الكوانتس"، بابتسامة مشرقة، واصطحبتني الى الطائرة.
**
ومشيت على الدولار
عندما قررت الذهاب الى العراق للمشاركة بالمربد الشعري الثامن عام 1987، زارني، قبيل سفري بيومين، الاستاذ بطرس عنداري، رئيس تحرير جريدة النهار الأسترالي، وسألني:
ـ هل ستحمل معك دولارات أميركية إلى العراق؟
ـ سأحمل ألفي دولار فقط..
ـ هذا كثير.. خذ معك 300 دولار لا غير، لأنك لست بحاجة الى المال هناك، فكل شيء مؤمن من قبل وزارة الثقافة: إقامتك، تنقلاتك وطعامك.
ـ ولكنني سأشتري بعض الهدايا..
ـ إذن، إفعل ما فعلته أنا ذات يوم..
ـ وماذا فعلت..
ـ خبّأت الدولارات في حذائي..
ـ هل تنصحني بأن أضع ألف دولار في كل فردة حذاء؟
ـ هذا ما يجب أن تفعله كي لا تصادر دولاراتك. العراق، وللأسف، يخضع لأبشع العقوبات الأميركية، وهم بحاجة ماسة للعملات الصعبة، لذلك عليك أن تنتبه.
وفي اليوم الثاني، اشتريت حذاء أوسع بنمرتين من حذائي الطبيعي، ووضعت المبلغ داخله ورحت أتمرّن على المشي، ولأول مرة أحسست أنني أدوس غلى رقبة الدولار، الذي داس على رقاب الملايين حول العالم.
أما في محفظتي فلقد وضعت 300 دولار فقط، كي أصرّح بها على المطار، حيث استقبلت بحفاوة بالغة من قبل لجنة مختصة، نقلتني الى الفندق.
هناك، لا يمكنك الشراء بالدولار مثل لبنان، بل عليك أن تحوله الى الدينار العراقي، فأخبروني أن سعر صرف الدولار بالسوق السوداء يساوي أربعة أضعاف سعر صرفه من قبل البنك، وبدأ السماسرة السريين يحومون حولي ويرفعون سعر الصرف، ولكني رفضت أن أخون الضيافة، فرحت أزور البنك، وأقبل بالحلال الوطني على االحرام الكثير.
وصدقوني أنني صرفت بفرح شديد في الأسواق العراقية، معظم المبلغ الذي أحمله، على الهدايا والكتب النادرة التي جلبتها من هناك، فالعراق الذي استضافني بكرم بالغ، وجب علي أن أتكارم عليه بحفنة من الدولارات الصعبة، نكاية بالعقوبات الاميركية.
**
التكريم الدبلوماسي
فصل تكريمي في السفارة اللبنانية، إثر عودتي من العراق، لن أكتبه أنا، لأن المهندس السوري رفيق غنّوم قد سبقني بكتابته عام 2002، ونشره في كتابه الشهير: "أجمل ما قبل بأدب شربل بعيني"، الذي احتوى على الكثير من ذكرياتي ورحلتي مع القلم، إنه وباختصار شديد يحتوي على الكثير مما سأذكره، وما لم أذكره، في سيرتي هذه، وأنصح كل من يود أن يدرس أدبي ان يعود إليه. وإليكم ما كتب:
لـم يحدث بتاريخ الجالية اللبنانية أو العربيّة في أستراليا، أن فتحت سفارة عربيّة أبوابها لتكريم أديب عربيّ، كما فتحتها، عام 1987، سفارة لبنان في كانبرا لتكريم الشاعر شربل بعيني العائد من مربد الشعر في العراق.
ولكثرة ما تناقلت وسائل الإعلام المهجريّة خبر التكريم، سأكتفي بمقاطع من مقال بحجم صفحة كبيرة أوردته جريدة صدى لبنان بعددها الصادر بتاريخ 12/1/1988:
"تكريماً للشاعر شربل بعيني الذي رفع إسم لبنان في مربد الشعر في العراق، دعا السفير اللبناني السيّد لطيف أبو الحسن وعقيلته سميرة إلى مأدبة أدبية في دار السفارة في كانبرا، ضمّت السفراء العرب: أنور الحديثي "العراق"، عبد الرحمن العوهلي "السعوديّة"، علي كايد "قائـم بأعمال السفارة الأردنيّة"، ومنصور عبد اللـه "سكرتير السفارة اللبنانية"، إلى جانب نخبة من أهل القلـم والتربيّة في طليعتهم راهبات العائلة المقدّسة في هاريس بارك، الأخوات كونستانس باشا، مارلين شديد، ومادلين أبو رجيلي.. والأساتذة: كامل المر، فؤاد نمّور، نعيم خوري، عصمت الأيّوبي، جرجس طوق.. وغيرهم..".
إذن، وكما قرأنا في بداية الخبر، نجد أن السفير اللبناني لطيف أبو الحسن قد خطّط لتكريم شربل بعيني، فدعا السفراء العرب والراهبات والأدباء والشعراء ومسؤولي الجالية في كانبرا، وأجلس الشاعر بعيني تحت صورة رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة يومذاك السيّد أمين الجميّل، زيادة في تكريمه.. وإليكم بقيّة الخبر:
"السفير اللبناني أبو الحسن ارتجل كلمة بالمناسبة، مرحبّاً بسفراء وممثلي الدول العربيّة، وبراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، وجميع الذين لبّوا دعوته لتكريم الشاعر شربل بعيني. كما تحدّث عن دور الأديب، وعن الأدب المهجري في أستراليا "الذي لا أراه أدباً مهاجراً بل أدباً متمدداً أو منتشراً، لأن أدبنا المهجري يحتفظ وبكل فخر بجذوره الممتدة في أعمق أعماق تربة الوطن.
وتحدّث سعادته عن دور الأديب في وطنه الجديد، وإسهامه في بنائه، ورفع حصون حضارته، معتبراً أن الأديب، أي اديب، والشاعر، أي شاعر، هو سفير لبلاده ولحضارته الأم، وأن على عاتق مثل هؤلاء السفراء تلقى مسؤوليّة التعريف بالوطن الأم وحضارته العريقة.
وتمنى في ختام كلمته للشاعر شربل بعيني ولرابطة إحياء التراث العربي في أستراليا، ولجميع الأدباء والشعراء الذين يحملون لواء مسؤوليّة الكلمة كل تقدّم وازدهار، متمنياً عليهم مزيداً من العطاء".
ولكي يجيء التكريم على مستوى الوطن العربي، أعطى السفير لطيف أبو الحسن الكلمة لسفير المملكة العربيّة السعوديّة السيّد عبد الرحمن العوهلي، الذي "شكر فيها لسعادة سفير لبنان إتاحته الفرصة للسفراء والدبلوماسيين العرب للقاء الشعراء والأدباء، مؤكداً أن بلاده وسائر البلاد العربيّة تبارك خطوات الأدباء والشعراء العرب في الديار الأسترالية، ولا سيما الشاعر شربل بعيني الذي عاد مؤخراً من مربد الشعر في العراق "وقد سبقته شهرته مما أثار الشوق في نفوسنا لسماع قصيدته المربديّة".
وقبل أن أنقل إليكم مقاطع من كلمات وقصائد الشعراء المهجريين الذين شاركوا بالتكريم، أحب أن أخبركم أن السفير العراقي أنور الحديثي لـم يكن أكثر حظاً من السيّدة سامية زوجة السفير جان ألفا، أو من البطريرك الماروني مار نصراللـه بطرس صفير، اللذين بكيا وهما يستمعان لقصائد شربل بعيني. بل أن صدى لبنان تخبرنا أنه لـم يتمالك نفسه عن البكاء وهو يستمع لقصيدة شربل المربديّة:
"أما شربل بعيني فقد ألقى قصيدة المربد الشهيرة التي قوطعت بالتصفيق مراراً، وكان لها وقعها الخاص لدى السفير الحديثي، الذي لـم يتمالك نفسه عن البكاء تأثّراً".
أول المتكلمين كان رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المر، فقال:
"أصحاب السعادة.. إن صح لي أن أتقدّم إخواني الشعراء بالكلام، فلأشكرنّ سعادة سفير لبنان الأستاذ لطيف أبو الحسن، أولاً: لأنه أعاد السفارة اللبنانية كما يجب أن تكون بيتاً لكل اللبنانيين. وثانياً: لأنه أتاح لنا الفرصة، فرصة اللقاء بكم، بمناسبة تكريمه الشاعر شربل بعيني. وثالثاً: على هذه الإلتفاتة الكريمة لتكريم واحد من طليعة شعرائنا في المهجر الأسترالي الذين بهم نفتخر ونعتز".
بعده، ألقى الشاعر المكرّم شربل بعيني قصيدته المربديّة، وقصيدة ثانية باللهجة اللبنانيّة أختار منها:
إسمو لطيف.. وبو الحسن عيله
التاريخ شكشكلا الصدر إلماس
الميله اللي فيها.. بترجح الميله
ع كتر ما بتلتـم حولو الناس
بيشهد عليي الربّ حبّيتو
من يوم ما دقّ الهوا ع الباب
ووقت اللي صفّى بيتنا بيتو
منزعل إذا بينقلّنا غيّاب..
وكعادته، زمجر صوت الشاعر المرحوم نعيم خوري بقصيدة هي البركان بعينه، تساءل فيها عن أحوال لبنان:
"ولماذا حرب ضروس عليه
تتلظى وكل فكر بليدُ!
يا أبا الحسن في ظلالك تنمو
شعلة الوعي والوفاق الوطيدُ
أنت تسقي مطارح الفكر عطراً
نرجسياً لكي يثوب الجحودُ
هذه دعوة التواضع فيها
من مزاياك رونق وشهودُ
وفي ختام التكريم، ألهبت قصيدة الشاعر المهجري عصمت الأيّوبي الأكف، فكانت بحق مسك الختام، ولقد اخترت منها:
الضّاد تفرح أن يكرّم شاعرٌ
فيكرم الإنسانُ في الإنسانِ
ما "شربل" إلا فتى أحلامنا
حمل الرسالة داخل الوجدانِ
كبراعم الزهر الندي يصونها
ويصوغها في أجمل الألحانِ
فتذوب حيناً رقّةً ولطافةً
وتثور، حين يثور، كالبركانِ
وعند رجوعه إلى سيدني، وفي مقال نشرته جريدة النهار في عددها الصادر بتاريخ 14/1/1988، صوّر الأديب عصمت الأيّوبي التكريم، كما لـم تصوّره كاميرا الفيديو، فقال:
"الثلاثاء، الثاني والعشرون من كانون الأول 1987، كان يوم شربل بعيني في كانبرا، العاصمة الفيدرالية للبلاد، حيث يقيم سعادة السفير أبو الحسن، تقرر أن يكون مكان التكريم، إلى جانب مأدبة غداء يقيمها سعادته على شرف المحتفى به، ويحضرها السلك الدبلوماسي العربي وأعضاء الوفود المشاركة.
منذ الصباح الباكر غادر المدعوون الولاية الأولى متوجهين إلى كانبرا، وقد سلكوا لغايتهم خطّين: واحد بري والثاني جوّي..
مسافة الثلاث ساعات الفاصلة بين ولاية نيو ساوث ويلز وكانبرا، مرّت كلمح البصر، أو كحلم جميل كان لا يزال مستبدّاً بنا في نشوة الفرح والغبطة، إذ سرعان ما وجدنا أنفسنا على أبواب كانبرا نحاول معرفة الشارع المؤدّي إلى مقرّ السفارة اللبنانيّة، الذي أهدانا إليه بلهفة وشوق علم بلادنا المرفرف بعزّة وإباء على ناصية دار السفارة..".
هكذا صوّر عصمت الأيّوبي رحلته الأولى إلى كانبرا للمشاركة بتكريم صديقه ـ صهره الآن ـ شربل بعيني، وأعترف أنني اخذت من المقال عبارات قليلة، وكان عليّ أن أنشره بكامله، نظراً لأهميّته، لولا ضيق المجال. وفي الختام قال عصمت:
"مع فنجان القهوة بعد الغداء، كانت كلمة ترحيبية رائعة ألقاها سعادة السفير أبو الحسن، شملت جميع المدعوّين، وتمحورت بخاصّة حول رابطة إحياء التراث العربي، ودورها في خدمة الأدب المهجري، الذي اقترح سعادته تسميته بأدب التمدد والإنتشار، لكي تظلّ الصلة بالوطن قائمة، متينة، بعيداً عن معنى المهجر، وما ينطوي عليه من معنى الغربة والإقتلاع. ثـم هنّأ الزميل شربل بعيني على مثابرته ومقاومته لمغريات الحياة الماديّة، متمنياً له استمرار التقدّم والإزدهار، واطراد النجاح في المهمة التي يضطلع بها.
حوالي الثالثة انفضّ المجلس، وأخذت الصور التذكاريّة، وكان يوم شربل يوم الجالية، يوم الوطن، يوم الأمّة العربيّة".
بعد هذا التكريم، توطّدت العلاقات الأخويّة بين شربل بعيني والسفير لطيف أبو الحسن، وأصبحا أكثر من صديقين.. فكرّمه شربل في بيته عدّة مرّات، ومدحه بقصائد عديدة ضمّها ديوانه أحباب.. كما أنه دافع عنه دفاع المستميت كلّما حاول أحدهم التطاول عليه أو على السفارة اللبنانية.. أو نظر للسفير أبو الحسن بمنظار طائفي.. في وقت كان التقاتل الطائفي على أشده في وطن الأرز لبنان.
هذا ما حدث بالفعل، سجّله رفيق غنّوم في كتابه "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني"، ليحكي قصة مهاجر هرب من لبنان الزعامات الفاسدة عام 1971، ليكرمه لبنان السيادة والكرامة والحرية في سفارته بالعاصمة الاسترالية كانبرا عام 1987.
**
مناجاة علي
لم يكتفِ المهندس رفيق غنّوم بذكر تكريمي في السفارة اللبنانية في المقال الذي ذكرت سابقاً، بل انتقل إلى تكريمي من قبل الجمعية الاسلامية العلوية على ديواني "مناجاة علي" الذي ترجم الى لغات عديدة منها الانكليزية والفرنسية والاسبانية والآردية، والفارسية، وقد أكون أول من أدخلت المزامير الى الدين الاسلامي، كون الديوان يتألّف من عشرين مزموراً، بالعامية اللبنانية. وإليكم ما كتب:
عام 1992، كرّمت الجمعيّة الإسلاميّة العلويّة في سيدني، بالإشتراك مع الأديب اللبناني الكبير جورج جرداق، وفعاليات الجالية الأدبيّة والإعلامية، شاعرنا شربل بعيني، وكان بين المتكلمين سفير الأدب والأدباء الدكتور لطيف أبو الحسن، فكانت كلمته رائعة كإلقائه وكحضوره. وبما أنني سأتكلّم عن هذه المناسبة لاحقاً، أستميح القرّاء عذراً، إذا استبقت الأحداث ونشرت كلمة السفير لأهميّتها وصدقها، وإليكم ما قال:
"كلّما دخلت منزل شربل بعيني تطالعك ظاهرتان تمتلكان فيك القلب والعقل. الظاهرة الأولى، هي تلك الإبتسامة المشعّة على شفاه أهل الدار، المشفوعة بكلمة (يا أهلا وسهلا) الصادرة من القلب. وما هذه الإبتسامة إلاّ مرآة تعكس ذلك الكنز الثـمين من المحبّة والصداقة، الذي يجمعه شربل بعيني وذووه بين حناياهم. تشعر بأنك واحد من أهل البيت، والدة عطوفة أعطت العالـم ما في المحبّة من رونق عندما ولدت شربل بعيني.
والظاهرة الثانية، التي تمتلك حواسك وعقلك، هي ذلك الشعار ـ الرمز المعلّق في أبرز مكان على جدار قاعة الإستقبال، ليراه القاصي والداني، ولو نطق لسمعته يقول: الخلق كلّهم عيال اللـه. إنه رمز وحدة الأديان والطوائف اللبنانية، جمعها شربل في بيته وقلبه وعقله، وجسّدها في مناجاة علي، ونطق بها في مزموره السابع:
دينك ديني.. دين الحبّ
الحبّ اللي بيجمع أكوان
وعلى مبدأ المحبّة، توحّدت الأديان في عالـم شربل بعيني.
في مناجاة علي تلتقي المحبّة والإيمان على مبدأ سمو الأديان، ونبذ التفرقة والتعصّب، فاللـه، كما قال السيّد المسيح، محبّة: (من أقام في المحبّة أقام في اللـه وأقام اللـه فيه)، والشرعة الوحيدة التي يتحتّم على الإنسان أن يعيش بها ولها، كما قال ميخائيل نعيمة، هي شرعة المحبّة، محبّة كل الناس، وكل الكائنات.
فلا عجب، إذاً، ولا غرو أن ينهل شربل بعيني من ينبوع عليّ، يغرف منه ما شاء، ويرتوي من حكمته وطهارته ليؤسّس معه علاقة فكريّة روحيّة، تنطلق من هذه الشرعة السرمديّة، شرعة محبّة كل الناس والكائنات.
عندما يناجي شربل بعيني عليّاً، تشعر بأنك أمام معزوفة موسيقيّة تشابكت فيها تعاليـم الأديان السماويّة بتناغم عذب، تنقلك من محيط الإيمان إلى محيط المحبّة، ومن عالـم الإنسان الأرضي إلى مجرّة الإنسانيّة، وفوق هذا وذاك ينكشف لك بأن (الخلق كلّهم عيال اللـه، أحبّهم إليه أنفعهم لعياله).
مناجاة علي، بالإضافة إلى كونه عملاً أدبياً رائعاً، هو وجه مشرق في حياة شربل بعيني، استحوذ على المزيد من إعجابنا وتقديرنا، إذ أنه تطرّق إلى موضوع يلامس حياتنا الواقعيّة، ويعكس أبهى ما في العلاقات الإجتماعيّة بين مختلف المذاهب من مزايا إنسانيّة وروحيّة، وهو بعمله هذا يعيد إلى ذاكرتنا روائع بولس سلامة وجورج جرداق وغيرهم من الذين عرفوا قدر الإمام علي بن أبي طالب.. وقَدَرَه.
قيمة هذا العمل هي في ذاته، ونزداد انبهاراً به كونه أنتج في المهجر، ليكون نبراساً للأدب المنتشر، وقدوة في التلاحم الديني. إنه رسالة المهجر إلى الوطن، أو بالأحرى، دعوة إلى نبذ العصبيّة الطائفيّة والتعصّب الأعمى، اللذين كادا أن يفتّتا الوطن. إنه رسالة إلى أولئك الذين يأخذون من التعصّب ستاراً، لا بل حصناً يبثّون من ورائه سموم التفرقة، تارة باسم الدين، وطوراً باسم الوطن، والدين والوطن منهم براء.
إبن لبنان البار هو من حمل راية التلاحم والتلاقي والمحبّة والإنصهار. بهذه الأقانيم تبنى الأوطان. فهنيئاً لشربل بعيني بهذا التكريم، وهنيئاً للبنان الواحد الموحّد، وللجالية اللبنانية الواحدة الموحدة، بشربل بعيني".
أعتقد أن كلام السفير هذا، كان وسيبقى سفير الكلام في هذا المغترب البعيد، فهو يشرح نفسه بنفسه، وتتسابق معانيه لتفسّر بعضها البعض بدقّة بالغة. كما أنه يدعو اللبنانيين، من خلال مواطن واحد اسمه شربل بعيني، إلى نبذ الطائفيّة، وبناء الوطن الواحد الموحّد، الذي يحضن أبناءه، كلّ أبنائه، ليصبح، فيما بعد، الوطن الأجمل، وطن الأحلام المعشّشة فيه، والعائدة إلى ربوعه.
وعندما أحيل السفير أبو الحسن إلى التقاعد، ودّعه شربل بحفلة تكريميّة مؤثرة، ألقيت بها القصائد والكلمات، وعلّقت صور "اللطيف" بالمئات في كل أرجاء القاعة. كما خصّه بعدد من مجلة ليلى، نشر فيه كل الكلمات التي ألقيت في وداعه. فالمسافر ليس إنساناً عادياً بنظر شربل بعيني: إنه "مكرّمه الأوّل" عام 1987.. إنه صاحب "الفضل العظيم" الذي يعجز عن إرجاعه.. إنه صديقه وأخوه.. إنه سفير بلاده.. إنه لطيف أبو الحسن وكفى.
وإليكم مقتطفات من الكلمة التي ألقاها السفير أبو الحسن ليلة وداعه، ونشرتها مجلة ليلى كافتتاحية في عددها الثاني والعشرين، الصادر في شهر آب 1997:
"أشعر اليوم أنني في قلب (بتخنيّه) وفي قلب (مجدليا)، وفي قلب لبنان.. إذ أن هذه العواطف الجيّاشة جعلتني عاجزاً عن مجاراتكم في اللغة والبلاغة والمبنى.
يطيب لي، وأنا محاط بهذه الباقة الفوّاحة من الأصدقاء، أن أسترجع ذكريات مرّ عليها إثنا عشر عاماً. ففي السنة الأولى لوصولنا إلى أستراليا، تكرّم الأستاذ شربل بعيني وأقام لي حفلة استقبال في دارته العامرة، وأوّل ما لفت نظري لوحة معلّقة في البهو الرئيسي من المنزل، تتضمّن شعائر الأديان السماويّة كلّها، فأكبرت فيه ذلك، وقلت في نفسي إنني أمام ظاهرة فريدة تجسّد لبنان، تجسّد الإنسانيّة في لبنان.
وبعد أن تناهى إلى سمعي، بعد سبع أو ثـماني سنوات، إنه مارس قناعته فعلاً، واقترن بليلى إبنة أخي عصمت الأيّوبي وأم مصباح.. قلت: لا شك ان هذا الرجل، بما يمثّل ويؤمن ويعتقد، هو تجسيد للقيم والأخلاق اللبنانيّة، التي يجب أن يبنى الوطن عليها.
أخي وصديقي شربل.. لقد أكرمتني مرّتين: المرّة الأولى عندما منحتني صداقتك، والمرّة الثانية عندما نبذت الطائفيّة قولاً وفعلاً، وكأني بك توجّه رسالة تقول بها: هكذا تبنى الأوطان".
وقد نشر كلارك بعيني، في الجزء الثالث من كتابه شربل بعيني بأقلامهم ـ 1988، صورة تجمع بين السفير أبو الحسن وشربل بعيني، وعلى الصفحة المقابلة أبيات لشربل تشرح أبعاد الصورة:
العمر مأكّد كزدوره
وعم تمشيها المعموره
مهما تبعّدنا الأيّام
منبقى جُوّات الصوره
أنّى للأيّام أن تبعد صديقين عزيزين كشربل ولطيف.
أعيد وأكرر أن كتاب "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" يحتوي على معلومات كثيرة قد لا أتمكن من ذكرها هنا، لذلك أدعوكم لقراءته.
**
الزواج
لا تقولوا إنني أقفز من مكان الى مكان أثناء سردي لقصة حياتي، فالذاكرة وانا ابن الرابعة والسبعين بدأت تخونني، وأصبحت مجبراً على تدوين ما تنعم به علي ساعة وصوله الى شاشة أفكاري.
رحلتي مع الزواج كانت أتعس من رحلتي من لبنان الى أستراليا، فلقد دام زواجي الأول أربعة أشهر فقط، وكان السبب الرئيسي لطلاقي هو أن أنتقل للعيش في مدينة ملبورن، وكنت قد شارطت العروس قبل الزواج أن عليها أن تعيش معي في سيدني، فوافقت وهي تقول:
ـ على الزوجة أن تتبع زوجها أينما سكن.
وفجأة انقلبت الموازين رأساً على عقب، وقررت عائلة زوجتي أن تأتي بها الى ملبورن، ولو بقوة السلاح، إذ شهر والدها بندقية كان قد أخفاها في صندوق السيارة، ولو أردت أن أتراذل معه لأدخلته السجن مدى الحياة، ولكن حبي لابنته منعني من ذلك، فقلت له:
ـ ارجع البندقية الى السيارة، وخذ ابنتك الى حيث تريد، شرط أن تقبل هي بذلك.
فاقتربت مني وهمست:
ـ سأعود بعد اسبوع، انتبه لنفسك، واتصل بي دائماً.
ومر أسبوع، وشهر، وستة أشهر، ولم تعد، وكانت كلما اتصلت بها تصيح:
ـ إذا كنت تحبني حقاً، تعال الى ملبورن، هنا ستعمل ليلاً على تاكسي والدي..
ـ وهل تريدينني أن أترك بيتي الذي بنيته بعرق جبيني، ومهنة تعليم الاطفال، التي قرّبتني كثيراً من الأبوة، لكي أعمل على التاكسي ليلاً، من دون ان أملك رخصة لقيادته؟
ـ هذا هو شرطي، إما المجيء وإما الطلاق.
وحصل الطلاق المدني، وبعده تقدّمت، بمساعدة راعي الابرشية المارونية في أستراليا المطران عبده خليفة، للحصول على الطلاق المسيحي.
يومها سألني محامي الكنيسة، إذا كنت سأطلق زوجتي، لو اعترفت بخطئها، واعتذرت مني.
فقلت:
ـ هي لن تفعل ذلك..
ـ بل فعلت..
وأسمعني تسجيلاً بصوتها، وهي تعترف بحسن معاملتي لها، وأن أمها هي التي خربت بيتها، وأبعدتها عن زوجها بسبب استبدادها القاتل.
وبعد أن انتهت من شهادتها وهي تبكي، سألني:
ـ هل سترجعها؟
قلت:
ـ إذا أعطتني الكنيسة تعهداً خطياً مفاده أن زوجتي في حال أنجبت لي طفلاً، لن تحمله وتذهب به الى ملبورن وتستعمله كوسيلة ضغط كي ألحق بها.
فتنهد وقال:
ـ للأسف ليس بإمكاننا أن نكفل أحداً.
ـ إذن، أريد الطلاق.
وكان أسرع طلاق مسيحي على الاطلاق بعد ستة اشهر من الزواج، بسبب دعم سيادة المطران عبده خليفة.
وبما أنني على ذكر سيادته، سأخبركم بأنه كان معجباً بأشعاري، وقد كتب عنها الكثير، لا بل كتب عام 1988، مقدمة موسعة لديواني "ألله ونقطة زيت"، الذي أصف به رجال الدين "بلصوص الهيكل"، لأنهم يسرقون المؤمنين ليشتروا صلباناً ذهبية نكاية بالصليب الخشبي الذي علق عليه السيد المسيح.
بمقدمته للكتاب، بانت قوة معرفته الادبية والدينية، وتعمّقه باللاهوت الكنسي، وبدلاً من أن يعتبر ذمي لرجال الدين موجهاً له، خرج بنتيجة أن شربل بعيني بثورته هذه يستثني رجال الدين الشرفاء الاتقياء، كأمثاله طبعاً، وبدون هذه الثورة لا معنى لأشعاره.
وقد اعترف أيضاً، أن شربل بعيني شاعر اصلاحي، وأقتطف من مقدمته ما يلي:
"القصائد الأربع والعشرون التي يضمّها ديوان "أللـه ونقطة زيت"، تتميّز بالعفويّة والأصالة التي هي من مناقب الشاعر الحقيقي. لا ينحت من صخر بل يغرف من بحر آلهة الشعر، وتأتي القصائد كلّها وكأنها صيغت في وقت واحد. أمواج دفّاقة تتشابه بكل ما فيها من تيّارات جعلت لهذا الديوان وحدته وتضامن أفكاره وسعة آفاقه. نطالع هذه القصائد على اختلاف مواضيعها، ونشعر بأن نسمة واحدة تهيمن عليها، نسمة الإيمان، نسمة الصدق، نسمة الموضوعيّة، وأيضاً وأخيراً، نسمة القرف أمام خزعبلات من له أن يعيش صادقاً مع نفسه ومع الآخرين".
أرأيتم، كيف أخضع القصائد الثورية لمصلحته، وحولها من خندق الهجوم إلى خندق الدفاع عن رجال الدين الابرياء.
**
الزواج مرة ثانية
أقسمت أن لا أتزوج مرة ثانية على الاطلاق، ولكن القسم سرعان ما تبخّر عندما وقعت بالحب.
سمعتهم يقولون في المسلسلات العربية: "يضرب الحب شو بيذل"، وكنت أضحك لهذا القول، إلى أن أذلّني حب فتاة من الطائفة السنية الاسلامية الشريفة.
هي "ليلى" ابنة أخي وصديقي الاستاذ عصمت الايوبي، أحبتني وأحببتها متخطياً المثل العامي القائل: "اللي بيتزوج من مله غير ملته، يقع في علة غير علته"، وقد أعانني الله حقاً، إذ دام زواجنا أكثر من 16 سنة، بعدها تم الطلاق لأسباب تافهة، أبعد ما تكون عن الطائفية والدين.
عائلتها أصبحت عائلتي، وما زالت حتى الآن، فكل فرد فيها موضع احترام، ليس مني فقط، بل من كل فرد في المجتمع.
ولشدة حبي لها، أوجدت مجلة شهرية تحمل اسمها "ليلى"، وقد عاشت أكثر من 4 سنوات، الى ان أجبرت على إيقافها، بعد الصدمة النفسية التي تعرضت لها، إثر وفاة أمي في سيارتي بينما كنا عائدين من زيارة قريبنا السيد بطرس زعيتر.
عام 1999 قررنا زيارة لبنان، بعد 28 سنة من الغربة الطويلة، فاستقبلنا في منزله مؤسس جائزة شربل بعيني الادبية الدكتور عصام حداد، بقينا هناك أقل من عشرة أيام، بعدها انتقلنا الى شقة اشتريناها في منطقة "السامرية" القريبة من "النخلة" قرية زوجتي.
صاحب الشقة المهندس قاسم بريش، سلمنا المفتاح، قبل أن يتقاضى منا دولاراً واحداً، وأنزلنا بسيارته الى "طرابلس"، حيث اشترينا عفش البيت كاملاً من محل واحد، شرط أن ينقله الى شقتنا حالاً.
احتار صاحب المحل ماذل يفعل، فالوقت أصبح متأخّراً، وعليه أن يقفل محله، أو أن يجد شاحنة تنقل العفش كي لا يخسر مبلغاً كبيراً من المال سيتقاضاه نقداً.
بينما كنا نستريح داخل محله، كان هو يركض من دكان الى دكان، ويسأل أصحابها عن سائق شاحنة ينقذه من هذا المأزق. والظاهر أن عصافير الحظ قد زقزقت على شباكه، إذ بشاحنة تقف أمام محله، وينزل منها رجلان كي ينقلا العفش إليها.
نمنا في الشقة في اليوم الذي اشتريناها به، دون أن نعلم الدكتور عصام بالأمر، لأنه لن يوافق، وكيف يوافق، وقد خصص الطابق السادس من بنايته من أجل راحتنا. وعندما علم بأمر الشقة صرخ بوجهي:
ـ لماذ اشتريت شقة وعندك شقة بجبيل.
وقد شعرت أنه لا يريدني أن أشتري شقة كي لا أبتعد عنه، فلقد طلبت منه لحظة وصولي الى لبنان، أن يريني شققاً للبيع، شرط أن تشرف على وادٍ.
فقال بلهجته اللبنانية المحببة:
ـ يا عمي، ضروري تكون الشقة فوق الوادي، لبنان كله وديان، مطرح ما بدك وقاف وتفرّج.
وبعد يومين من الانتقال الشاق والمتواصل من شقة الى شقة، ومن بلدة الى بلدة، دون أن يعجبني شيء، أوقف سيارته وقال متأففاً:
ـ إنزل..
فنزلت.
ـ أنظر حولك هل يوجد أجمل من هذا المنظر، أينما اشتريت ستجد نفسك مطلاً على وادٍ، أو على جبل، أو على بحر. هذا هو لبنان.
صدق والله عصام، فالشقة التي اشتريتها في منطقة السامرية كانت تطل على قرنة السوداء من ميل، وعلى البحر الأبيض المتوسط من ميل آخر.
**
الأيوبيون
الأيوبيون في "النخلة" حضنوني بعطف، وأحبّوني بصدق، خاصة عم ليلى العميد محمد ياسر الايوبي، فلقد كان قديساً بكل ما للكلمة من معنى.
وقد أظهر قداسته لي عدة مرات، المرة الأولى، عندما أوقفني حاجز للجيش السوري عام 1999، بسبب خطأ ارتكبه السائق العمومي عندما حاول أن يمازح العسكري بطريقة بشعة، فأنزلوا كل من في السيارة، وطلبوا مني هويتي، فأعطيتهم جواز سفري الاسترالي الذي يحمل إسم "شارل بعيني"، وليس "شربل بعيني"، فتفحصّوه وأعادوه لي، وقالوا:
ـ أنت لبناني، أليس كذلك؟
ـ نعم..
ـ أرنا هويتك اللبنانية..
فأعطيتهم إخراج قيد مختوم من وزارة الخارجية، ويحمل اسم "شربل بعيني"، فأخذوه، وابتعدوا، وراحوا يتهامسون فيما بينهم، فأحسست أن شيئاً غريباً قد يحدث لي، وبدون أي تردد، اتصلت بالعميد محمد ياسر الايوبي، وكان يومذاك، مسؤولاً عن أمن السفارات، وأخبرته أنني في مأزق، وأن حاجزاً سورياً قد أوقفني في منطقة الكورة، فهدأ من روعي، وقال:
ـ أنا قريب منك، سأصل بعد دقائق.
وما أن وصل، حتى اقترب أحد الجنود وقال:
ـ أنت مطلوب للتحقيق، تفضّل معنا.
هنا تدخّل العميد الايوبي وقال:
ـ رئيس جهاز المخابرات في الشمال صديقي، سأتصل به الآن وهو سيكلمكم.
وبالفعل تحدّث معه كصديق، وطلب منه أن يعطي الموبايل للجندي، فأخبره أن العميد الايوبي سيأتي بشربل بعيني الى مكتبه.
وقبل أن ندخل المكتب، قال لي العميد:
ـ إياك أن تجادل..
ـ أمرك..
ـ إسمع جيداً، إذا كانت مسألتك صعبة، دعني اتكلم.
وما أن دخلنا، حتى وقف مرحباً بالعميد، وهو ينظر إليّ بقرف، ويقول:
ـ أخبروني انك زرت العراق عام 1987، وألقيت قصيدة ثورية هزّت المربد الشعري الثامن، وفيها بعض التلطيشات علينا..
هنا، تذكرت ما أخبرني إياه السيد حسن قياسي صاحب قصة "العرس" لدى عودته من سوريا، فلقد حذرني من أن ذهابي الى العراق قد أزعجهم في سوريا، لدرجة أن الأمن في مطار دمشق استجوبه، وسأله عن معرفته بي، فلم ينكر، بل قال الحقيقة:
ـ شربل بعيني لا يتعاطى السياسة أبداً.
تذكرت هذا وأنا أحاول أن أفكر كيف أبرر ذهابي الى بغداد، وقد أخبرني حسن أن البعث السوري والبعث العراقي على خصام شديد:
وبعد لحظات قلت:
ـ من أوصل لك هذا الخبر، صاحب فتنة، يريد الايقاع بي، قصيدتي هناك كانت عادية جداً، ولم أقصد بها أحداً.
ـ لماذا تكرهنا إلى هذا الحد؟
فقلت:
ـ معاذ الله أن أفعل ذلك.
ـ لا بل فعلت..
وسحب من جاروره قصاصة من جريدة "صدى لبنان" التي كنت أنشر بها زاوية رباعيات، ورماها أمامي، وقال:
ـ إقرأ..
فقرأت بصوت منخفض.
فصاح:
ـ أسمعت يا عميد، هذا ما يقوله صهركم؟
فقلت:
ـ هذا الكلام كان قبل أن آتي الى لبنان، وأرى بأم عيني مدى حرصكم على سلامتنا، وحفظ أمننا، وأعدك الآن، بأنني سأمحو ما كتبت من الوجود. فالأخبار كانت تصلنا الى أستراليا مشوهة وللأسف.
وما أن انتهيت من الكلام حتى قال:
ـ سأتركك الآن، إكراماً لهذا الايوبي الشهم. ولكن تذكّر بأن ما حصل هنا، سيبقى هنا، إياك أن تخبر أحداً على الاطلاق، وإلا سأغيّر موقفي منك. احفظ هذا الرقم في محفظتك، فإذا أوقفوك مرة ثانية دعهم بتصلون بي، دون أن تتعب العميد بمشاكلك.
ـ أمرك سيدي..
وما أن خرجنا، حتى التفت الى العميد وقلت له:
ـ لقد أنقذتني.. سأقبلك على جبينك، هنا، حيث تضع الارزة؟
فضحك وقال:
ـ لست الوحيد الذي أنقذته يا شربل، فلقد سبقك الكثيرون.
وصدقوني انني لم أخبر أحداً بما حدث، حتى والدتي، إذ كيف أفتح فمي وقد علمت أن هناك مخبراً حقيراً يتنقل بيننا، يأكل زادنا، يحصي أنفاسنا، ليرسلنا الى التهلكة.
أما تلك الرباعية الشؤم، فلقد رميتها في سلة المهملات، واهديت دمشق الحبيبة أجمل قصيدة باللغة الفصحى تقول:
هذي دمشقُ الحبُّ والأَلَقُ
فيها يَهيمُ الوردُ والحَبَقُ
أحبَبْتُها من يَوْمِ ما وُجِدَتْ
حُلْماً جَميلاً هابَهُ الأرَقُ
أهديْتُها الأشْعارَ مِنْ كُتُبٍ
فيها الدُّنَى أجْدادُنا سَبَقوا
يا شامُ.. لم أعْشَقْ سِوَى وَطَنٍ
سُكّانُهُ الأمْجَادُ لَوْ نَطَقُوا
إنّا خُلِقْنا لِلْوَرَى أَمَلاً
نَعْدُو لِيَعْدُو خَلْفَنا الأُفُقُ
قدْ أطفأوا الفانوسَ في فَرَحٍ
والوَهْجَ من أعْيادِنا سَرَقوا
أنتِ النجومُ البيضُ في غسقٍ
لولاكِ، لا، لَم يَنْجَلِ الْغَسَقُ
والشَّمْسُ أنْتِ الشَّامُ يا بَلَدي
مَنْ قالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَحْتَرِقُ
أَلْبَحْرُ حُبُّكِ، والحَبيبُ أنا
وَلَكَمْ غَرِقْتُ وَعافَني الغَرَقُ
**
توصية المطار
حاول العميد محمد ياسر الأيوبي أن يكرّمني لحظة وصولي بالطائرة الى مطار بيروت، لم ألتقه من قبل، بل سمعت باسمه من أخيه الاستاذ عصمت، وكانت المرة الاولى التي أعود بها الى لبنان والخوف يتملكني من أن يتم اعتقالي بعد 28 سنة من الغربة.
ماذا فعل عميدنا؟ أرسل أحد الضباط في المطار لاستقبالي، وتدبير خروجي دون الوقوف في الصف بين الركاب، ولم أكن أعلم بذلك، لذلك خفت عندما دخل الطائرة أحد الضباط ونادى باسمي:
ـ الاستاذ شربل بعيني.
فلذت بالصمت، فنادى مرة أخرى:
ـ الاستاذ شربل بعيني..
وقبل أن يكمل المناداة، نكزتني أم أحد تلاميذي، وكانت تجلس خلفي:
ـ ألم تسمع يا مستر بعيني، إنه ينادي عليك.
هنا وقفت وقلت:
ـ نعم، ماذا تريد؟
ـ لا تخف، معي توصية من العميد محمد ياسر الايوبي، وما عليك سوى أن تتبعني.
هنا تنفست الصعداء، فشكرته بلطف وقلت له:
ـ بين الركاب، يوجد الكثير من أهالي تلاميذي، وأفضل أن أقف معهم في الصف، كي لا يقولوا عند رجوعهم الى سيدني، شربل بعيني يشجع الواسطة.
نظر إليّ بتعجّب وقال:
ـ وماذا عن توصية العميد الأيوبي؟
ـ سأشكره بنفسي، وأشرح له الوضع.
تركني وهو يهز برأسه تعجباً، وعندما وصلت الى باب المطار، رأيته يقف هناك، فأديت له التحية، وخرجت.
ساعة خروجي من المطار كانت بحدود الحادية عشرة ليلاً، والمطر ينهمر بغزارة، وكان الاستاذ عصمت قد استأجر سائقاً من منطقة الكورة، وعندما وصلنا الى منطقة "الدورة"، أوقفنا حاجز للدرك اللبناني، وطلبوا من السائق أوراق السيارة، وإذا كان قد أخضعها للميكانيك، فقال:
ـ السيارة بدون أوراق، وبدون ميكانيك.
وللحال أمروه أن يركن السيارة في مكان معتم للغاية، وكان بالقرب منا عدد من السيارات المحجوزة، في واحدة منها طفل صغير يبكي من شدة الخوف.
خاف السائق، وطلب من عصمت أن يتصل بأخيه العميد ويطلب المساعدة، فنزل من السيارة واتجه نحو الحاجز وسأل:
ـ من هو الضابط المسؤول هنا؟
فدله أحد العساكر على الضابط، فاقترب منه وقال:
ـ أنا عصمت الأيوبي شقيق العميد محمد ياسر الايوبي.
فنظر إليه الضابط وقال:
ـ أنا من عائلة الأيوبي، ولكني لا أعرفك.
ـ لأنني أعيش في أستراليا منذ وقت طويل..
ـ إذا كنت حقاً شقيق العميد، اتصل به ودعني أتكلم معه.
وكما ذكرت سابقاً، فعجائب قديس الأمن لا تنتهي معي، فلقد كان مع أحد اصدقائه في منطقة الدورة، وما هي إلا لحظات، حتى عانقه الضابط المسؤول، ورحب به أشد ترحيب.
عندما رأيت العميد نزلت من السيارة، فسمعته يقول:
ـ صهرنا شربل بعيني قادم من أستراليا، أي لا ذنب له بالذي حصل، والساعة الآن قاربت منتصف الليل، والطقس بارد جداً، خذوا اسم ومكان سكن السائق، واسمحوا للصهر أن ينام ويرتاح بعد سفر طويل.
اقترب الضابط من السائق وقال:
ـ المرة القادمة سنحجزك انت وسيارتك، ولكن كرامة أبنائنا المغتربين سنتركك الآن.. إذهب.
هنا، تملكتني الشجاعة وأنا أنظر الى الطفل الباكي وقلت:
ـ لن أذهب، ما لم يذهب الجميع، إما أن تشمل بركة العميد الأيوبي الجميع، أو سأنام في هذه السيارة.
ضحك الضابط وقال:
ـ صهركم يا عميد أصبح أسترالياً حقاً. فليذهب الجميع.
وبالفعل أطلق صراح باقي الركاب، ومن فرحتهم، راحوا يلوحون لي وللعميد وللضابط بأيديهم، ويدعون لنا بطول العمر. أما الطفل الصغير الباكي فتطلع بي بعينين دامعتين، وأرسل لي قبلة.
**
جائزة شربل بعيني
عام 1992، أوجد الدكتور عصام حداد جائزة شربل بعيني، وراح يوزعها على المتفوقين من طلاب معهد الابجدية في مدينة الحرف جبيل.
وفي عام 1996، بدأنا بتوزيع الجائزة في أستراليا في احتفال ضخم أقيم في قاعة "الأوريون سنتر" في كامبسي. ومنذ ذلك الوقت، والجائزة توزّع على المبدعين في كافة أقطار العالم.
بادىء ذي بدء، أرسلت قسائم الترشيحات للجائزة، ضمن مجلة ليلى، ومن يحصل على أغلبية الأصوات يفوز بالجائزة. أي أن قراء المجلة هم من سيختارون الفائزين، كي لا تقع علي مسؤولية الاختيار، وقد أوجدت لجنة للاشراف على القسائم كي لا يحصل أي تلاعب بالنتائج.
مرت أربع سنوات، والقراء يختارون الفائزين، إلى أن توقفت المجلة، فأوجدت لجنة سرية مؤلفة من أربعة فائزين سابقين، إذ لا يحق لأحد أن يفوز مرتين في حقل أدبي أو فني أو اجتماعي واحد.
صحيح أنني لم أكن راضياً تماماً عن اختيار القراء، فلقد أوصلوا للجائزة من لا يستحقها بتاتاً، ولكن ليس باليد حيلة، فالقراء اختاروا وعليهم تقع المسؤولية.
وكان الدكتور عصام حداد يرسل تهنئته للفائزين على الشكل التالي:
تهنئتي الجبيلية اللبنانية أقدّمها لجميع الفائزين بجائزة شربل بعيني، وأطلب منهم أن يكونوا دائماً وأبداً على قدر المسؤولية، فمن يحمل جائزة كمن يحمل جبلاً.. إما أن يمشي مرفوع الرأس وإما أن يرزح تحته.
والمؤسف حقاً، أن بعض الفائزين بدأوا يرزحون تحت جبل الجائزة، ولقد توصّل أحدهم الى التهديد بإرجاعها إن لم أنفّذ أوامره، لذلك نشرت على موقع الجائزة الالكتروني هذا التنبيه الهام:
الى كل من يشعر أنه غير قادر على حمل جبل التكريم، وانه قد يرزح تحته، أو أنه أكبر من جائزة شربل بعيني، ما عليه سوى ان يعيدها الى أصحابها، باحترام كما سلمت إليه، وله منا كل الشكر والتقدير، ونأسف لاختياره.
33 سنة مرّت والجائزة ما زالت توزّع في أستراليا، وفي العالم العربي، وكافة بقاع الارض، فلقد أوجدها الدكتور عصام حداد كي تبقى، وستبقى بإذن الله.
**
جائزة جبران
أما الجائزة التي حزنت كثيراً على موتها السريري، وأعتذر كثيراً على هذا التشبيه، لأن جائزة جبران خليل جبران العالمية، قد سمموها بانشقاقاتهم، ونحروها بتطفلهم على الأدب، ودفنوها بأحقادهم، وهي في عز مجدها.
وقد لا أذيع سراً إذا قلت وبكل فخر، إنني الشخص الذي أوجدها في منتصف عام 1985، يوم كنت أحضّر لطباعة ديوان "الغربة الطويلة" في مطبعة "الثقافة" لصاحبها الاستاذ كامل المر، الذي راح يشكو لي همومه في "رابطة إحياء التراث العربي" التي كان يرأسها، وبعد ان انتهى من التنهد والكلام، قلت له:
ـ لماذا لا توزّع الرابطة جائزة سنوية باسم الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران، وأنا على يقين من أن الطامعين بها، وما أكثرهم، سيلتفون حولك، لا بل فد ينتسبون الى الرابطة بغية الحصول عليها.
فاستحسن الفكرة، وطلب مني أن أرسم براءة الجائزة كي يطبعها، كما طلب من الاستاذ صبري رمضان أن يرسم الميدالية. ولكثرة أشغاله، لم يتمكن من طباعتها إلا في أواخر عام 1986، لتوزّع في حفل ضخم عام 1987، وكنت أحد الفائزين الأوائل بها، ولم أكن قد انتسبت الى الرابطة بعد.
رابطة إحياء التراث العربي، قامت بمشاريع أدبية لا تحصى، واستقبلت العديد من كبار الادباء والشعراء والمفكرين اللبنانيين والعرب، لا بل أصبحت جائزتها موضع فخر الكبار مثل سفيرتنا الى النجوم فيروز، والشاعر نزار قبّاني، والمفكر المصري الدكتور رفعت السعيد، والدكتور عصام حداد، والشاعر اليمني محمد الشرفي وغيرهم الكثير.
وعندما استقلت من عضوية الرابطة، بدأت تستقبل ما هب ودب من الأعضاء، فبدأ السوس ينخر فيها، وبدأ الطمع برئاستها يدمر كل مقوماتها، لدرجة أن مؤسسها الاستاذ كامل المر قد ابتعد عنها.
حاولت بعد سنوات من استقالتي منها، أن أعيد مجدها الأدبي، الذي غمر العالم بنوره، فاتصلت بصديقي إيلي ناصيف، وبالاستاذ كامل المر لهذه الغاية، فوافقا دون تردد، ولكن موتها السريري كان أقوى من جهودي.
**
مؤسسة إنماء الشعر والتراث
صدق المثل الشعبي القائل "الله بيبلي وبيعين" إذ بلانا بموت الرابطة، وأعاننا بولادة "جمعية إنماء الشعر والتراث" التي أسستها الدكتورة بهية أبو حمد.
فقررت الانتساب إليها، كيف لا، وقد رأيت باندفاع بهية اللامتناهي من أجل رفعة الادب، اندفاعي يوم كنت شاباً، ألهب المسارح، لدرجة لقبّوني "بالميكرفون"، نظراً لمشاركتي في معظم مناسبات واعراس وأحزان الجالية، وحفلات الفنانين القادمين من الوطن.
وسمعت من الدكتورة ابو حمد، ما كنت أود أن أقوله، فرفعت لها القبعة وبدأت أساندها بإخلاص، وكانت تعطي الادب والفن أكثر فأكثر، ولولاها، وهذه شهادة للتاريخ، لما التقى شاعر بشاعر، ولما أبدع فنان، فهي من شرعت أبواب البرلمانات الاسترالية بغية تكريم أهل الشعر والادب والفن، وهي من أدخلت الزجل اللبناني ورفعت لواءه في تلك البرلمانات.
ومثلما كانت رابطة احياء التراث العربي تدعو الشعراء والادباء الى أستراليا، هكذا فعلت "جمعية انماء الشعر والتراث" لا بل ضاعفت الدعوات، لتلقح الادب المقيم بأدب الانتشار.
ونظراً لنشاطات الجمعية المتعددة، وخاصة بعد أن افتتح صالون الدكتورة بهية ابو حمد التابع لها، قلت للدكتورة:
ـ يجب استبدال كلمة جمعية بكلمة مؤسسة، لأن ما تقوم به أقرب ما يكون الى مؤسسة كاملة الاقسام والنشاطات.
ولكي أكون منصفاً أكثر، يجب أن أعترف أن هذه المؤسسة الفكرية الرائدة، قد أعطتني من المجد ما يعجز قلمي عن ذكره،، فلقد وزعت جائزة شربل بعيني بيوبيلها الفضي في قصر الأونيسكو ببيروت، وطبعت كتاباً ألفته الدكتور بهية بعنوان "شربل بعيني منارة الحرف 2019" في ثلاثة بلدان: أستراليا وماليزيا ولبنان، ووقعته في دول وقاعات وأماكن أعجز عن ذكرها نظراً لكثرتها.
وبكل فخر أذكر أنها كانت السبب في إيجاد مكتبة الأدب المهجري في القنصلية اللبنانية العامة في سيدني، التي حفظت المئات من كتب الشعراء والادباء والمفكرين المهجريين في أستراليا، ولولاها لضاع تراث أدبي لا يقدر بثمن.
والشيء المفرح حقاً، ان الدكتورة بهية تتكلم وتقرأ وتكتب ثلاث لغات بطلاقة: العربية والانكليزية والفرنسية، وهذا ما يحتاجه كل من يريد أن يتبوّأ رئاسة رابطة أدبية.
وكما حصل معي من نكران جميل، يوم كنت أقيم الندوات في بيتي، حصل مع الدكتورة بهية في صالونها، بل حصل معي أيضاً، كعضو فعّال، منتسب لمؤسستها الثقافية.
ولكي أشعرها بامتناني لها، أضفت اسم "جمعية إنماء الشعر والتراث" لمانحي جائزة شربل بعيني، كالدكتور عصام حداد، ومعهد الابجدية في جبيل، وموقع الغربة الالكتروني.
بقي أن أذكر أن الجائزة كانت من نصيبها عام 2015، فلولاها لما وجدت مكتبة الادب المهجري في القنصلية العامة في سيدني، والعديد من القنصليات العربية.
رحلتي الأدبية مع الدكتورة بهية أبو حمد مستمرة بإذن الله، لأن القمح كثير والحصّاد قليلون.
**
مكتبة الأدب المهجري
عندما أخبرني رئيس جمعية كفرصارون الخيرية الاستاذ ايلي ناصيف ان كتب الشاعر المهجري نعيم خوري تحرق من أجل إشعال الفحم في منقل شواء اللحم (الباربكيو)، حتى جن جنوني. فنعيم هو أحد أهم شعراء المهجر الاسترالي، وصاحب كتاب (شربل بعيني أيقونة أدب ـ 2005)، وما علينا سوى الاحتفاظ بكل حرف نزفه في غربته، وما من أحد سوى الدكتورة بهية أبو حمد قادر على ان يجد طريقة ما لحفظ أدبنا الاغترابي من نيران أجيال اغترابية لا تقرأ العربية.
رسالة من عدة أسطر كنت أرسلتها اليها، مثل كل الرسائل التي ارسلتها من قبل الى عدة مسؤولين من أجل حفظ أدبنا الاغترابي من الضياع، حولتها الى قضية وطنية عربية مشرّفة.
والقصة تبدأ في منتصف عام 2014، عندما أخبرتني الدكتورة بهية أنها مسافرة الى لبنان، حيث ستلتقي هناك ببعض الوزراء والمسؤولين اللبنانيين، فما كان مني الا أن قلت لها:
ـ هناك خدمة جليلة بإمكانك أن تقدميها للأدب المهجري في حال تمكنت من اقناع وزير الخارجية والمغتربين بإصدار أمر حكومي مبرم بإيجاد مكتبة في كل سفارة او قنصلية من أجل حفظ أدبنا الاغترابي.
وبدون أي تردد طلبت مني رسالة رسمية بهذا الخصوص كي تسلمها لمعالي الوزير، فكتبت:
سيدني في 4/6/2014
حضرة رئيسة جمعية إنماء الشعر والتراث المحامية بهية ابو حمد المحترمة
تحية لبنانية اغترابية وبعد..
كنت طرحت عليك خلال المقابلة التلفزيونية التي أجريتها معك فكرة ايجاد مكتبة في القنصلية أو السفارة اللبنانية بغية حفظ نتاجنا الادبي المنشور في أستراليا، فهناك المئات من الكتب التي ستضيع، وسيلفها غبار النسيان بعد أن لفّها الضياع والتشتت وموت أصحابها.
إذا وافقوا على تنفيذ هذه الفكرة، أنا على استعداد للتبرع بكل مؤلفات الأدباء الموجودة في مكتبتي زائد الخزانة التي ستحفظ بها.
قد يسأل سائل: ومن سيقرأ هذه الكتب؟
الجواب: هذه الكتب للحفظ وليس للقراءة، انها تراث لبناني اغترابي يشرّف بلدي لبنان، ومن يدري فقد تشد الباحثين الأكاديميين لدراستها وتسليط الضوء عليها.
أتمنى يا عزيزتي بهية أن يلقى طلبي آذانا صاغية.
مع احترامي
شربل بعيني
ولقي طلبي آذاناً صاغية، أولاً من إنسانة صغبينية مثقفة اسمها بهية، وثانيا من وزير الخارجية والمغتربين المهندس جبران باسيل، الذي عمم القرار على باقي السفارات اللبنانية، ومن القنصل العام جورج البيطار غانم، لتشرق في قنصليتنا العامة في سيدني أول مكتبة من نوعها بتاريخنا الاغترابي على كافة بقاع الارض، تحتوي على أكثر من 450 كتاباً حتى الآن، كلها من نتاجنا هنا. والجدير بالذكر أن رئيسة جمعية انماء الشعر والتراث هي التي تبرعت بثمن الخزانة، وليس أنا كما هو مذكور في الرسالة، فألف شكر لها.
وليس هذا فحسب، بل ان "البهية" لم تكتفِ بحفظ الأدب اللبناني من الضياع، بل حملت الفكرة الى باقي القنصليات والسفارات العربية، لتشرق بالقنصلية العراقية في سيدني ثاني مكتبة لحفظ الادب العراقي المهجري، وأتمنى أن يرسل شرفاء الكلمة العراقيون كتبهم الى القنصلية بأسرع وقت ممكن.
واليكم الخبر المفرح:
"بتاريخ 25 / 8 / 2015 ضمن سياق مبادرة المحامية الدكتورة بهية ابو حمد، استلمت قنصلية العراق العامة في سيدني المكتبة الخاصة لحفظ الكتب واﻹنتاج الأدبي والشعري والثقافي للشعراء والكتاب والمثقفين العراقييين، جرى بحضور سعادة القنصل العام لجمهورية العراق الاستاذ باسم عباس داود، وكافة موظفي القنصلية، حيث اشادت الدكتورة ابو حمد بتكريم معالي وزير الخارجية الدكتور ابراهيم الاشيقر الجعفري ودعمه للثقافة والشعر والفكر والادب، وتشديده على أهمية التواصل بين العراق المقيم والعراق المنتشر. كما اشادت بجهود القنصلية العامة للحفاظ على التراث والشعر والأدب بين الوطن المقيم والمغترب، واﻹنتاج الأدبي والشعري والثقافي العراقي، واعربت عن املها بنجاح هذه التجربة وبالاخص كونها ستشمل جميع البعثات الدبلوماسية العربية في استراليا واﻹغتراب، كما شكرت السلك القنصلي العراقي وجميع الحضور على دعمهم ومساعدتهم لها. وبهذه المناسبة اعلنت ابو حمد عن استعدادها الدائم لخدمة العراق.
وبعدها اشاد سعادة القنصل العام بكلمة مختصرة بجهود الدكتورة ابو حمد لهذة المبادرة وانها تستحق منا كل الاحترام، متمنينا لها النجاح بمشروعها المتضمن حفظ النتاج الثقافي والشعري للجاليات العربية في استراليا. علماً ان الدكتورة ابو حمد والشاعر الاستاذ شربل بعيني بصدد تقديم مجموعة من الكتب لادباء وشعراء عراقيين في استراليا لغرض حفظها في المكتبة".
وليس هذا فحسب أيضاً، بل أن "شمس صغبين" وعدت بإيجاد مكتبة في كل بعثة عربية في أستراليا.. فكيف لا أصفّق لها، وكيف لا أرفع لها قبعتي، وكيف لا أمنحها جائزتي، وكيف لا أمدحها وأشكرها؟
فكرة بسيطة رميتها في أذنها، تحولت الى قضية وطنية تهتم بها الوزارات العربية، وتكرّمها عليها، أفلا يحق لي أن أطالب بمنحها وسام الاستحقاق اللبناني؟ بلى والله، لأنها تضحي بالوقت والمال من أجل تحقيق فكرة أطلقها لسان إنسان متألّم في بلد ما، وزمن ما.
هناك أناس كبار عملوا بصمت من أجل تذليل غربتنا، إن كان اجتماعياً او انسانياً او أدبياً أو فنياً او فلكلورياً وما على لبنان وباقي الدول سوى تكريمهم، والويل الويل لأمة لا تكرم مبدعيها.
**
بيع الشقة
حادثة مؤسفة حصلت معنا، أنا وليلى، بينما كنا عائدين من زيارة آل حداد في مدينة جبيل. فلقد أصر الدكتور عصام أن يوصلنا بسيارته إلى شقتنا في منطقة السامرية ـ الكورة، وللأسف، رفضت، وقلت له:
ـ دعنا نركب البوسطة مثل أيام زمان..
ـ البواسط غير آمنة، وخاصة في الليل.
ـ سنجرب..
ويا ليتنا لم نجرّب، فلقد كانت الرحلة ممتازة، إلى أن توقّف الميني ـ باص، ليقلّ عاملاً سورياً الى مدينة طرابلس.
أمامي، كان يجلس دركياً لبنانيا شاباً، تكاد عضلات زنديه أن تمزق قميصه، وكان الميني ـ باص غاصاً بالركاب، ما عدا الكرسي التي بجانب الدركي.
توجّه العامل السوري نحو الكرسي للجلوس، فإذا بالدركي يضع رجله عليها، ويقول له:
ـ إجلس في مكان آخر
ـ أرجوك، دعني أجلس، فأنا منهك من شدة العمل.
ـ فلّ من هنا.. وإلا..
وكما هو معلوم، فجميع الشبان السوريين يخضعون للخدمة العسكرية، أي أنهم مدربون على القتال، لذلك اقترب الشاب وأزاح رجل الدركي، فما كان من الدركي إلا أن صفعه وهو يصيح:
ـ إرجعوا الى بلادكم.. نحن لا نريدكم هنا.
عندئذ، وقف بعض الشبان السوريين الموجودين في الباص، لمساندة ابن بلدهم، وبالمقابل وقف عدة شبان لبنانيين لدعم ابن بلادهم ايضاً، وبينما كانت الصفعات تتطاير مع الشتائم، خافت ليلى، وحاولت أن تقفز من شباك الباص الخلفي، وهو يسير بأقصى سرعة.
راكب، خمسيني، انتبه لها، وراح يمسك بها، كي لا ترمي بنفسها من الشباك، وما أن رأيت الهلع الذي أصاب ليلى، لدرجة الضياع، وعدم التفكير الصحيح، حتى صرخت بأعلى صوتي:
ـ يا شوفير، أوقف الباص.. أنزلنا من زريبة الحيوانات هذه.
هنا، توقفوا عن القتال، وراحوا ينظرون إلينا، ونحن ندفشهم جانباً كي نمر، وقبل أن ننزل، التفت الى الدركي اللبناني وقلت:
ـ الظاهر من تصرفاتك انهم وظفوك بتوصية من زعيم ما، لأنك لو خضعت للتدريب العسكري الصحيح، لعرفت أن من واجبك حفظ الامن أينما وجدت، ولو كنت مكانك لخلعت البذلة.
كلامي أحرجه أمام الركاب، فقال:
ـ أنا أعتذر، كنت أمزح معه، أرجوكما لا تتركا الباص..
ولكننا تركناه في منطقة البترون، وكان الليل قد بدأ يحجب المناظر الخلابة، والمطر ينهمر ببطء، وكأنه أراد أن يخفف من لهيب غضبنا.
وما هي الا دقائق، حتى توقفت سيارة عمومية بالقرب منا، وأطل سائقها من الشباك وقال:
ـ إلى أين؟ على طرابلس..
ـ أجل، شرط أن لا تقلّ بسيارتك أحداً غيرنا.
ـ أخبرني، ما القصة؟ ولماذا الخوف من الناس، نحن شعب مسالم.
فأخبرته بما حصل معنا في الميني ـ باص، فقال:
ـ إسمحوا لي أن أظهر لكم الوجه اللبناني الصحيح، ومن دون أي مقابل، سأريكم جمال طرابلس، من متحف رشيد كرامي، إلى منطقة الميناء، مروراً بالقلعة، إلى منطقة التل، وشارع المطران، وسأنزهكما على البحر.
ـ كلامك يدل على ثقافة عالية..
ـ أجل، أنا دكتور، أعمل على التاكسي في الليل كي أعيل أطفالي.
هنا بدأنا نرتاح له، ونصغي إليه، إلى أن سألني:
ـ لم تعرفني بنفسك.. من أنت؟
ـ شربل بعيني من أستراليا..
ـ والله العظيم لقد سمعت باسمك من قبل.. أخي يعيش في أستراليا.. إذن اسمحا لي أن أوصلكما الى مكان إقامتكما، لن أدعكما تذهبان مع سائق آخر قد يعكر مزاجكما.
ـ أشكرك، لقد أنسيتنا بلطف أحاديثك ما حصل في الباص.
ـ أريد منكما وعداً، أن لا تتوقفّا عن زيارة بلدكما، لبنان بحاجة ماسة الى مساندة أبنائه المغتربين.
وقبل أن ننزل من سيارته، رميت في جيبه خمسين دولاراً، فأقسم أن لا يأخذها، فقلت له:
ـ هذه ليست لك بل لأطفالك.
وما أن ودّعناه، حتى صاحت ليلى:
ـ يجب أن نبيع الشقة، لبنان ليس آمناً أبداً، إذا أردت أن تزوره، زره لوحدك.
وطارت الشقة التي حلمت بأن أقضي بقية عمري فيها، طارت لحظة وضع ذلك الدركي المستبد الفاشل رجله على الكرسي في الميني ـ باص. وتوقفت عن زيارة لبنان من كانون الثاني عام 2002، حتى شهر آب من عام 2023، حيث دعيت للاحتفال بإزاحة الستار عن تمثالي.
**
القضية الفلسطينية
ما أن بدأت الكتابة، حتى أقسمت على نصرة العدل، وخاصة قضايا الشعوب المظلومة والمشردة، لذلك آمنت بالقضية الفلسطينية، ورحت أتغنى بها شعراً ونثراً، لا بل نشرت ديواناً خاصاً بها، أسميته "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الاوسط". ومنه أختار:
فلسطين ثوري
وحطّمي قيدَ العدوِّ الحقيرِ
وكوني الخلودَ لشعبٍ قديرِ
وصيري..
حروفاً تهابها كل السطورِ
وكنت أرى أن معظم الشعوب تتقاتل فيما بينها، ما عدا الشعب الفلسطيني. لذلك رحت أغبطه على وحدته، رغم كثرة منظماته الثورية.
كان هذا في الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، أما اليوم، فلقد ضاعت القضية في ظلمة العقائد المختلفة، التي أججت نار الحقد، لا بل جحيم الموت، بين أبناء شعبها.
أجل، لقد ضاع الحابل بالنابل، كما يقولون، وأصبحنا نحن المؤمنين بالقضية الحق، نفتح أفواهنا مشدوهين، ونترحم على كل كلمة كتبناها، فلقد بدأ إيماني يتزعزع، ليس بالشعب الفلسطيني البريء، بل بمن يودي به الى الهلاك، وما أكثرهم.
ملايين الفلسطينيين هجّروا جراء منازعات عقائدية، سياية، خارجية لا تمت الى القضية الفلسطينية بصلة. من يدفع؟ من يقبض؟ لا أحد يعلم، ولكننا نعلم أن ما آمنا به بدأ يتزعزع. وإذا سألمتوني من زعزعه؟، أجيب وبكل صدق: ليست إسرائيل، بل الفلسطينيون أنفسهم.
وكي لا أتوقف عن نصرة القضية الفلسطينية فضّلت الهجرة على الصمت، تركت بيتي، أهلي، شعبي، وطني، ولم أتوقف عن دعم القضية حتى في أستراليا.
والآن، وجدت نفسي محبطاً، لدرجة قررت فيها الابتعاد عن كل شيء، فعام 1948 كان أرحم على الفلسطنيين من عام 2024، فلا الدول العربية ولا الاسلامية حتى ولا الامم المتحدة تحركت. ولكي لا تضيع غزة كما ضاع غيرها، أتمنى أن ينصب الفلسطينيون خيامهم على أراضيهم، أن يقفوا كالأشجار في الحقول، وأن يلوّحوا بأيديهم كطواحين الهواء، حتى لا يهزمهم "دون كيشوت" مجنون.
وإذا سألتموني الآن هذا السؤال:
ـ لو علمت في ذلك الوقت أن الفلسطينيين سيقاتلون بعضهم البعض، هل كنت توقفت عن نصرة قضيتهم؟
لأجبتكم بنعم ولا:
ـ نعم: لان الاحباط الشديد الذي أصابني، جراء الدمار الذي حل بوطني لبنان، وهجر شعبي، جعلني عاجزاً عن لم شتات أفكاري.
نعم مرةً ثانية: لأن المدرب العسكري قال لي مرة:
ـ كي تربح المعركة، عليك أن تعرف عدوك الداخلي قبل الخارجي، وإلا ستجلب الدمار لوطنك وستحصد الموت. فالحرب غير المدروسة تؤدي دائماً الى نتائج معكوسة. ولقد تذكرت ما كتبت عام 1969:
لَيْسَتِ الْحَرْبُ كَما كَانَتْ عَلَيْهِ
مُنْذُ قَرْنَيْنِ وَأَكْثَرْ:
قَوْسَ نَشَّابٍ،
وَخَيَّالاً يُزَاحِمُ فِي الْوَغَى عَنْتَرْ.
حَرْبُنَا الْيَوْمَ..
أَسَاطِيلٌ،
وَرادَارٌ..
وَذَرَّه.
حَرْبُنَا الْيَوْمَ..
صَوَارِيخٌ
تُدَنِّسُ، كُلَّما تَبْغِي، الْمَجَرَّه.
أجل، دخول الحرب لا يكون بالبهورة والادعاءات الفارغة، بل بالتخطيط واقتناء التكنولوجية الحديثة، من اتصالات وأسلحة وما شابه.
ونعم ثالثاً: لأنني لو لم أهاجر، لاخترت منحى آخر للكتابة، ولبقيت في السلك العسكري، ورحت أخدم لبنان بصدق وإخلاص، ومن يدري، كما قال الوزير رينيه معوض، قد أصبح قائداً، أو رئيساً، أو وزيراً، حسب التوزيع الطائفي المقيت.
والآن سأجيبكم بلا: لأن القضية الفلسطينية التي آمنت بها، كانت محقة، وما زالت محقة، فهذا الشعب الذي يملك أعلى نسبة من الثقافة والعلم، تحق له العودة الى دياره. ولن تتحقق عودته، وللأسف، إلا من خلال السلام الدائم. فالحرب العالمية الاولى انتهت بسلام دائم، والحرب العالمية الثانية انتهت بسلام دائم، فالحرب لا تجلب الا الموت، بينما السلام فانه يزرع البهجة في قلوب الاطفال، فجربوه.
من ناحية اخرى، أعطتني الغربة حرية اوسع، لا بل مطلقة، للتعبير عن أفكاري دون تردد أو خوف من زائر ليلي.
والسؤال الأهم: هل كان بإمكاني أن أكتب "مجانين" أو "كيف أينعت السنابل" أو "لعنة الله علينا"، لو كنت في لبنان؟.. لا أعتقد.
**
شربل بعيني بأقلامهم
كلارك بعيني، إبن عمتي، يعيش في مدينة ملبورن، التي تبعد عن سيدني، مسافة ساعة بالطائرة، وعشر ساعات بالسيارة، ولكنه كان أقرب إلي من ظلي.
ذات يوم اتصل بي وقال:
ـ نحنا نعيش في غربة، أجيالنا القادمة ستتكلم الانكليزية مع بعض الكلمات العربية. لذلك خطرت على بالي فكرة جمع كل ما يكتب عنك في سلسلة بعنوان "شربل بعيني بأقلامهم".
رحبت بالفكرة كثيراً، ولكني اشطرت عليه أن ينشر الذم قبل المديح، وإلا ما نفع السلسلة، إذا لم تكن صادقة.
وفي عام 1986 صدر الكتاب الاول من السلسلة، فلاقى استحساناً إعلامياً وثقافياً، خاصة وأن الكتاب يحتوي على مقالات من شتمني ومن مدحني دون تمييز.
ولكثرة ما كتب عني، راحت الكتب تظهر كل عام، لا بل أعيد طبعها مرات عديدة، إلى أن ظهرت عام 2022، بعد وفاة صاحبها وللأسف، كموسوعة مؤلفة من عشرة أجزاء، عدد صفحاتها يزيد عن ثلاثة آلاف، أما الكتب التي صدرت عني فلم نضمها الى السلسلة لكثرتها.
ولو لم يفكر كلارك بجمع آلاف المقالات التي تناولت أدبي، سلباً أم إيجاباً، لضاعت كلها، ولتناسى الناس أسماء أدبية وإعلامية مرت على صفحات غربتنا وغابت دون أن يذكرها أحد.
وأعتقد ان ما من أحد كتب عني إلا وكانت موسوعة "شربل بعيني بأقلامهم" مرجعاً هاماً له.
وإليكم الكتب التي صدرت عني مع أسماء أصحابها والسنوات التي صدرت بها، وعدد طبعاتها:
1988، 2023ـ مشوار مع شربل بعيني، كامل المر
1988ـ 1993، شربل بعيني ملاح يبحث عن اللـه، محمد زهير الباشا، سوريا
1993، 2017، الوهج الإنساني في مناجاة شربل بعيني، نجوى عاصي
1993ـ شربل بعيني في مناجاة علي، أحمد حمّود
1994ـ 2022 شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد، مي طبّاع
1996ـ شربل بعيني في جامعة مكارثر ـ سيدني
2002، 2010، 2020ـ أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني، رفيق غنّوم
2005، نعيم خوري: شربل بعيني أيقونة أدب.
2010، كمال العيادي: شربل بعيني الملك الأبيض
2010، 2020ـ كلمات سريعة عن شربل بعيني: د. علي بزّي
2014ـ عزيزي شربل بعيني، د. عصام حداد
2014ـ شربل بعيني: شاعر العصر في المغتربات، نعمان حرب
2014، 2020ـ شربل بعيني زينة الشعّار، عصام ملكي،
2014ـ شربل بعيني شاعر الغربة السوداء، الدكتور جميل الدويهي
2014ـ شربل بعيني ظاهرة مميزة، بطرس عنداري
2014ـ شربل بعيني رائد من روّاد الشعر المهجري، انطونيوس بو رزق
2014ـ الثورة في شعر شربل بعيني، جوزاف بو ملحم
2014ـ شربل بعيني شاعر امتي، مفيد نبزو
2014ـ شربل بعيني فخر الشعّار، زين الحسن
2014ـ رسائل الكبار الى شربل بعيني، نزار قباني، عبدالوهاب البياتي، الأب يوسف سعيد، د. رفعت السعيد، محمد الشرفي.
2014ـ شربل بعيني علامة فارقة في بستان الشعر المهجري، شوقي مسلماني
2014ـ شربل بعيني ثائر شجاع، ميشال حديّد
2015ـ حذار أن تصادق شربل بعيني، فاطمة ناعوت
2016ـ شربل بعيني رسام الكلمات، الأب يوسف جزراوي
2016ـ نحن وشربل بعيني، هدلا القصار، محفوض جرّوج وروميو عويس.
2016ـ رسائل محمد زهير الباشا الى شربل بعيني.
2016ـ شربل بعيني ترنيمة حب، أكرم برجس المغوّش.
2017ـ الجنوب اللبناني يكرّم شربل بعيني.
2019ـ يوبيل شربل بعيني الفضي والذهبي
2019ـ شربل بعيني منارة الحرف، د. بهية ابو حمد
Charbel Baini a great man of words – 2020
2020ـ شربل بعيني بين الفصحى والعامية. د. مصطفى الحلوة
2022ـ شربل بعيني: الصوت، الصدى والمدى. عصمت الأيوبي.
2022ـ موسوعة شربل بعيني بأقلامهم، 10 أجزاء، للأديب الخالد كلارك بعيني.
2022ـ شربل بعيني رائد المسرح الطفولي، د. علي بزّي.
2023ـ شربل بعيني صوت لبنان الأمين د. مروان كسّاب.
وعن موسوعة شربل بعيني بأقلامهم، قال الشاعر شوقي مسلماني انه لم يعرف شاعراً أو أديباً جمع كل ما كتب عنه في موسوعة تتألف من عشرة أجزاء، وأكثر من 3500 صفحة إلا شربل بعيني.
وكما ترون، فغربتي الأدبية لم تكن قاحلة، فلقد زينها بالحب والتقدير جميع الذين ذكرت أسماءهم في هذا الفصل، فالرحمة لمن غادر دنيانا، وطول العمر لمن بقي مشعاً بيننا.
**
لقد كرمت كثيراً
موهبة الكتابة أتعبتني كثيراً، هجرتني من بلدي، عرّضتني للشتائم والتهديد، ومع ذلك لم أتخلَّ عنها، بل رحت أدافع عن الحق أكثر، وكنت أتنقل من حفل الى حفل لأعلن لأبناء الجالية إيماني بوحدة الشعب اللبناني بكل طوائفه، أجل كان همي الوحيد أن تنأى الجالية بنفسها عن كل ما يحدث في لبنان. صحيح أنني تعرّضت لضغوطات سياسية كثيرة، كي "أسد بوزي" ، ولكن أنى لهم ذلك، فالكاتب الجبان لا يليق به القلم، ولن يهتم بأدبه القارىء.
هذه المواقف الوطنية أعطت ثمارها، فلقد كرّمت في حياتي كثيراً، فمحبة الآخرين لي كانت الشريان الحيوي الذي يمدني بالطاقة وبالقوة. وما أجمل التكريم إذا جاء دون أن تسعى له، كما يفعل البعض. وصدقوني انني لم أسعَ وراء شهرة أو تكريم، أو جائزة.. فالأدب الانساني الصادق يسطع كأشعة الشمس، وسيشعر بدفئه الجميع.
وإليكم لائحة بأسماء الأحبة الذين كرّموني، وأنا حي أرزق:
ـ عام 1985، كرمني السفير جان ألفا بحضور رئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز نيك غراينر والعديد من السياسيين وأهل الفن والادب.
ـ عام 1987، كرّمتني وزارة الثقافة العراقيّة بدعوتي للمشاركة بمهرجان المربد الشعري في العراق.
ـ عام 1987، كرمني السفير لطيف أبو الحسن في السفارة اللبنانية في كانبرا بحضور السلك الدبلوماسي العربي وفعاليات الجالية الأدبية والإجتماعية والدينيّة.
ـ عام 1991، كرّمني مغتربو بلدة مجدليا في أستراليا.
ـ عام 1992، كرّمتني الجمعيّة الإسلاميّة العلويّة، بالإشتراك مع الأديب جورج جرداق وفعاليات الجالية الأدبيّة والإعلاميّة، على ديواني العالمي مناجاة علي.
ـ عام 1992، وزّع معهد الأبجديّة في جبيل ـ لبنان، لصاحبه الدكتور عصام حداد، جائزة شربل بعيني، وفي العام 1994، وزعت الجائزة في أستراليا وما زالت توزّع.
ـ عام 1992، نشرت جامعة ديكن الأسترالية لمحة عن حياتي ومؤلفاتي في كتاب أسمته:
A BIBLIOGRAPHY OF AUSTRALIAN MULTICULTURAL WRITERS
صفحة 18
ـ عام 1993، احتفلت الجالية العربيّة في أستراليا بيوبيلي الفضي
ـ عام 2001، كرّمتني رابطة الجمعيات اللبنانية في منطقة السانت جورج سيدني، برئاسة الحاج خليل حراجلي.
ـ عام 2001، كرّمتني راهبات العائلة المقدسة المارونيات في معهد سيّدة لبنان هاريس بارك، برئاسة الأخت إيرين بو غصن.
ـ عام 2001 كرّمني مختار مجدليا السابق الياس ناصيف أبي خطّار، بمناسبة رجوعي إلى لبنان، بحضور فعاليات القرية.
ـ عام 2002، خصّتني لجنة معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين بالصفحتين 670 و 671 من المجلد الثاني، الطبعة الثانية، الكويت. ونشرت لي ثلاث قصائد بالفصحى: أديب غريب، ظلال، وحنان المكتوبة بخط يدي.
ـ عام 2012 كرمتني مؤسسة العراقية للاعلام والثقافة على ابداعي الثقافي والمسرحي والاعلامي في أستراليا، لصاحبها الدكتور موفق ساوا.
ـ عام 2014 كرّمني مجلس الجالية اللبنانية في سيدني، برئاسة السيد علي كرنيب بمناسبة يوم التحرير.
ـ عام 2015 كرّمني تجمّع الوطنيين الأستراليين العرب برئاسة الاستاذ موسى مرعي في شهر رمضان المبارك.
ـ عام 2015 كرّمني سعادة قنصل لبنان العام في سيدني الاستاذ جورج البيطار غانم، بمناسبة إطلاق مكتبة الأدب المهجري.
ـ عام 2016 كرّمني نادي شباب لبنان الأسترالي، فيكتوريا
ـ عام 2016 كرمتني أستراليا بالاشتراك مع لبنان في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز، بإشراف الدكتورة بهية ابو حمد رئيسة جمعية انماء الشعر والتراث. وكانت المرة الاولى في تاريخ أستراليا التي يكرّم بها الشعراء في البرلمان، كما أن الجمعية ادخلت الزجل اللبناني في سجلات البرلمان والديوان الملكي البريطاني.
ـ عام 2017 كرمتني جمعية مجدليا الخيرية بمناسبة اليوبيل الفضي لجائزة شربل بعيني في قصر الاونيسكو ببيروت.
ـ عام 2018 كرمتني جمعية النهضة العراقية بمناسبة اختيار بغداد عاصمة للاعلام العربي.
ـ عام 2018 كرمني "لقاء الأربعاء" بمناسبة مرور خمسين سنة على صدور أول ديوان لي بعنوان "مراهقة".
ـ عام 2023 أزاحت بلدتي مجدليا الستار عن تمثالي، الذي أبدعه النحات نايف علوان.
أما الجوائز التي حصلت عليها من الكبار فلقد كللتني بتاج الغار، وزينت حياتي بالمجد، وإليكم ما تذكرت منها:
1985ـ جائزة الأرز الأدبيّة، من قنصل لبنان العام في سيدني جان ألفا
1986ـ جائزة تقدير الكلمة، من الأستاذ سامي مظلوم، مالبورن
1987ـ جائزة جبران العالميّة، من رابطة إحياء التراث العربي
1988ـ درع جمعيّة رأس مسقا الخيرية، سيدني
1990ـ جائزة كتابة الأغنية، من جمعية الفنون والتراث العربي، كانبرا
1992ـ درع مجدليا، من مختار بلدة مجدليا الياس ناصيف أبي خطار
1992ـ درع مغتربي بلدة مجدليا في كندا، بشخص المغترب طوني أنيسة.
1992ـ جائزة الشاعر الأديب جورج جرداق، بمناسبة تكريمي على ديواني مناجاة علي.
1992ـ لوحة زيتية تمثّل كتاب (مناجاة علي)، من الجمعية العلوية، سيدني.
1993ـ درع المركب الفينيقي، جمعية بنت جبيل الخيرية، سيدني
1993ـ لوحة جلدية تمثلني حاملاً ديواني الأول (مراهقة)، من الجالية اللبنانية بمناسبة يوبيلي الفضي.
1994ـ جائزة التقدير الأولى للأدب المهجري، من مدرسة الشرق الأوسط الداوديّة، سيدني.
2000ـ جائزة أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار، من المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم،قارة أميركا الشمالية، الذي يرأسه الدكتور جوزيف حايك.
2001ـ لوحة تقديرية بمناسبة تكريمي من قبل إتحاد الجمعيّات اللبنانيّة في منطقة السانت جورج، سيدني.
2001ـ لوحة تقديريّة بمناسبة تكريمي بعيد تأسيس جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات، سلمتني إياها رئيسة معهد سيّدة لبنان الأخت إيرين بو غصن.
2002ـ جائزة أمير الشعراء اللبنانيين في عالـم الإنتشار، من المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم، قارة أميركا الشمالية، الذي يرأسه الدكتور جوزيف حايك.
2012ـ جائزة تقديرية من مؤسسة العراقية الاعلامية.
2014ـ جائزة تقديرية من مؤسسة "السواقي" الثقافية.
2014ـ جائزة تقديرية من مجلس الجالية اللبنانية.
2014ـ درع وزارة الثقافة اللبنانية بإمضاء الوزير ريمون عريجي، وقد أحدث هذا الدرع ضجة إعلامية جعلت الوزير عريجي يتراجع عنه، ولكن الدكتورة بهية أبو حمد صاحبة الفكرة، لم تستلم بل سلمتني اياه في صالونها بعهد الوزير غطاس خوري بتاريخ 22 نيسان 2017.
2015ـ درع رابطة الشاعر العملاق عبد الوهّاب البياتي.
2015ـ درع تجمّع الوطنيين الاستراليين العرب.
2015ـ جائزة البيّاتي للقصيدة العمودية، أمسية البيّاتي الثانية.
2015ـ درع تقديري من قنصل لبنان العام في سيدني الاستاذ جورج البيطار غانم.
2016ـ شهادة تقدير من نادي شباب لبنان الأسترالي، فيكتوريا.
2016ـ درع تقديري من رئيسة جمعية انماء الشعر الدكتورة بهية ابو حمد.
2016ـ درع تقديري من قنصلية لبنان العامة في سيدني يحمل شعار وزارة الخارجية اللبنانية.
2016ـ شهادة تقدير من رئيس حزب العمال في ولاية نيو ساوث ويلز السيد لوك فولي.
2016ـ درع تكريمي من البيت الثقافي الفني في جنوب أستراليا ـ أدليد، بشخص رئيسه الاستاذ احمد مهدي.
2016ـ شهادة تقدير من نقابة شعراء الزجل في لبنان بشخص رئيسها الشاعر جورج ابو انطون.
2016ـ شهادة تقدير من السانتور شوكت مسلماني في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز.
2016ـ شهادة تقدير من جامعة ستراتفورد ـ فيرجينيا ـ الولايات المتحدة الأميركية.
2016ـ شهادة تقدير من النائب الأسترالي، اللبناني الأصل، جهاد ديب.
2017ـ درع تقديري من جمعية مجدليا الخيرية ـ سيدني.
2017ـ درع تقديري من رئيسة جمعية انماء الشعر والتراث الدكتورة بهية ابو حمد تشجيعاً مني لباقي الشعراء بغية نشر مؤلفاتهم.
2018 ـ منحتني الدكتورة بهية ابو حمد درع "الأبراج الماليزية" تقديراً لي على عطاءاتي الادبية.
2018ـ ميدالية شهر رمضان المبارك من جمعية النهضة العراقية التي يرأسها الاستاذ غسان الأسدي.
2018ـ شهادة تقديرية من السانتور شوكت مسلماني بمناسبة اليوبيل الذهبي.
2019ـ شهادة تقديرية من مجلس الجالية اللبنانية بمناسبة يوم الوئام.
2019ـ شهادة تقديرية من جمعية النهضة العراقية بمناسبة يوم الوئام.
2019ـ شهادة تقديرية من حركة حق وعدالة، لبنان.
2020 ـ جائزة تقديرية من السانتور شوكت مسلماني
2021ـ منحوتة خشبية مستديرة بقطر طوله 120 سنتم لميدالية جائزة شربل بعيني بإزميل النحات العالمي توفيق مراد.
2022ـ جائزة تقديرية من نقيب الزجل اللبناني الشاعر جورج ابو انطون.
2023ـ جائزة تقديرية من وزارة الثقافة اللبنانية، بشخص الوزير محمد وسام المرتضى.
2023ـ جائزة تقديرية من رئيس جمعية مجدليا في سيدني الاستاذ أنطوني خوري.
2023ـ درع الابداع من الاديب سامي مظلوم، ملبورن.
2023ـ شهادة تقديرية من رئيس مجلس السفراء العرب في العاصمة الاسترالية كانبرا، السفير الاردني الدكتور علي كريشان، يوم توقيع كتاب الدكتورة بهية أبو حمد "شربل بعيني منارة الحرف" في البرلمان الفيدرالي ـ كانبرا.
2023ـ أرزة لبنانية مذهبة من منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافي، بيد ابنة القصائد الاديبة ميراي شحادة حداد.
2023: درع تقديري من جمعية انماء الشعر والتراث، بشخص الرئيسة الدكتورة بهية ابو حمد.
2023ـ أرزة من خشب الأرز الخالد بيد الأستاذة نانسي عكر.
2023ـ لوحة فنية تمثل التراث الطرابلسي بيد الفنان بسام ملوك.
2023ـ شهادة تقديرية من رابطة الجامعيين في الشمال بشخص الرئيس غسان عبدالرحمن الحسامي.
**
المعاش التقاعدي
عندما بلغت الخامسة والستين من عمري، عام 2016، توجب علي، إذا أردت طبعاً، أن أخلد للراحة وأتوقف عن العمل، وهذا ما فعلت.
عند الساعة التاسعة صباحاً، دخلت المكتب الحكومي المختص بالتوظيف والتقاعد، في منطقة "ماريلاندز"، ورحت أنتظر دوري، فدخل قبلي أكثر من سبعة أشخاص من الجالية الأفغانية، ولم أجد إنساناً لبنانياً هناك يطلب عملاً، ففرحت كتيراً، لأن البطالة لم تعد متفشية في جاليتنا والحمد لله.
وفجأة، نادتني إحدى الموظفات، فرحبت بي وبدأت تسأل وتدوّن:
ـ ما اسمك؟
ـ شارل بعيني..
وهذا اسمي الذي اختارته لي موظفة عجوز من أصل فرنسي، يوم حصلت على الجنسية الاسترالية عام 1973، وكان اسم شربل نادر الوجود، عكس اليوم تماماً، فلقد أصبح من أشهر الأسماء في أستراليا.
يومها طلبت من تلك الموظفة الفرنسية العجوز أن تكتب إسمي كما هو: شربل. ولكنها أجابتني بغضب:
ـ ما هذا الاسم الغريب؟ سأعطيك اسم "شارل" تيمناً بالرئيس "شارل ديغول".
ـ ولكن إسمي شربل..
ـ إسمك من الآن فصاعداً "شارل".
أخبرتكم كل هذا لتعرفوا من أين جاء إسم "شارل" الذي فرض عليّ فرضاً.
والآن، لنعد الى موظفة التقاعد، التي سألتني:
ـ في أي سنة جئت الى أستراليا.
ـ سنة 1971..
ـ هل عشت هنا طوال هذه المدة؟
ـ أجل..
ـ ولكني لا أجد أي شيء عنك في الدوائر الحكومية..
ـ لأنني كنت مواطناً صالحاً..
ـ ألم تقبض أي معاش طوال هذه المدة من مكتب التوظيف الحكومي.
ـ لا.. بل كنت أعيش من تعبي..
ـ عند وصولك الى أستراليا، ألم تتلقَ أي معونة حكومية؟
ـ لا..
ـ ألم تدخل أي مستشفى للعلاج؟
ـ لا، فصحتي جيدة والحمد لله.
ـ ألم تدخل دائرة البوليس؟
ـ كلا..
وبعد اتصالات مكثفة بالمكتب الفيدرالي في العاصمة كانبرا، أكدوا لها صحة ما ذكرت، وأنني عشت طوال هذه السنوات في أستراليا، دون أن يلتقطني أي رادار حكومي، بسبب سلوكي الممتاز. هنا التفتت إلي وقالت وهي تبتسم:
ـ لماذا أنت هنا؟
ـ أريد معاشي التقاعدي..
ـ إسمع مني لا تطالب به.
ـ ولماذا؟
ـ كي نعلنك أفضل مواطن لبناني دخل أستراليا.
هكذا والله، حرفياً.
كلام هذه الموظفة لم ينطوِ على مديح لي، بل على تأنيب مذل كوني أنتمي إلى جالية شوّه وجهها العديد من أبنائها، فمن منّا لا يذكر وجع الظهر اللبناني، الذي هزّ المحاكم الاسترالية، وأدرج في قواميس اللغة الانكليزية؟.
من منا لم يشاهد المئات من أبناء الجالية يدخلون السجون، بسبب تعاطي المخدرات، أو ترويجها؟.
من منا لم يحزن حين يتهم مواطن لبناني بسرقة الدولة الاسترالية، بعد وصوله إلى أعلى المراكز؟.
ألم يسافر شبابنا الذين ولدوا، وكبروا، وتعلموا هنا، بغية الانتماء الى منظمات إرهابية؟
هذه السيدة لم تمدحني على الاطلاق، بل أرادت أن تقول لي دون خجل:
ـ لقد فوجئت حقاً بوجود لبناني جيد في هذه البلاد.
الحزن الذي تملكني وأنا عائد الى منزلي ليس من كلام هذه الموظفة، بل من حمرنة الكثير من اللبنانيين الذي هاجروا الى هذه الديار هرباً من الظلم، فإذا بهم يتحولون الى ظالمين. وتناسوا وقوفهم بذل أمام باب السفارة الاسترالية في بيروت بغية الحصول على فيزا تخولهم المجيء الى بلاد أقرب ما تكون الى الجنة السماوية، تقدم لهم مجاناً السكن، والتعليم، والطبابة، ومعاش نهاية الخدمة، وغيرها الكثير.
من يدخل الى أستراليا، عليه أن يتخلى عن كل العيوب التي حملها معه من لبنان، أو أي بلد جاء منه، لأن ديونها عليه كثيرة، ومن واجبه أن يسدد هذه الديون بالسيرة الحسنة.
**
طاحون النشر
"لقد سخّرت مالي في خدمة حرفي، وجندت حرفي في خدمة الانسانية، فساعدني يا رب كي أمتلك الحقيقة".
هذا القول كتبته ونشرته أولاً في ديوان "ألله ونقطة زيت"، وثانياً في كتاب "خواطر"، كوني أؤمن تماماً بكل حرف فيه، فلقد نشرت عشرات الكتب، ووزعتها مجاناً، على كل من يرغب بقراءتها، وعلى العديد من المكتبات العامة في أستراليا ولبنان والعديد من الدول. إيماناً مني بأن الموهبة التي أتتني مجاناً من الرب، علي أن أهب ثمارها مجاناً للناس.
يصفني الشاعر فؤاد نعمان الخوري "بطاحون النشر"، كوني أول من نشر ديوان شعر في أستراليا، اسميته "مجانين". صحيح ان الشاعرين عصام ملكي وسمعان زعيتر قد وزعا كتابيهما قبلي، ولكن الكتابين طبعا في لبنان وليس في أستراليا.
ما من كتاب نشرته إلا وطبع عدة مرات، وإليكم لائحة بأسماء وتواريخ الكتب التي نشرتها بعونه تعالى:
1ـ مراهقة، 8 طبعات، 1968، 1983، 1987، 1989، 2010، 2016ـ 2018، 2020
2ـ قصائد مبعثرة، ثلاث طبعات،2010،1970، 2016
3ـ مجانين، سبع طبعات، 1976، 1986، 2002 ، 2010، ،1993، 2016، 2020
4ـ إلهي جديد عليكم ، ثلاث طبعات، 1982، 2010، 2016
5ـ مشّي معي، ثلاث طبعات، 1982، 2010، 2016
6ـ رباعيات ، اربع طبعات، 1983 ـ 2010،1986، 2016
7ـ قصائد ريفيّة، اربع طبعات، 1983، 2010،1986، 2016
8ـ من كل ذقن شعرة، خمس طبعات، 1984، 1986، 1990، 2010، 2016
9ـ من خزانة شربل بعيني، ثلاث طبعات، 1985، 1986، 2016
10ـ الغربة الطويلة، خمس طبعات، 1985، 1992، 2010،2002، 2016
11ـ كيف أينعت السنابل؟، اربع طبعات، 1987، 2010،1988، 2016
12ـ أللـه ونقطة زيت، ثلاث طبعات، 2010،1988، 2016
13ـ كي لا ننسى بطرس عنداري، 1988
14ـ معزوفة حب، ثلاث طبعات، 2010،1989، 2016
15ـ أحباب، ثلاث طبعات، 2010،1990، 2016
16ـ مناجاة علي، اربع طبعات، 1991، 1992، 2010، 2016
17ـ قرف، ثلاث طبعات، 1993، 2010، 2016
18ـ أغنية حب لأستراليا، ثلاث طبعات، 2010،2005، 2016
19ـ ظلال، 2010، 2018
20ـ غنوا يا أطفال، طبعتان، 2010، 2016
21ـ عالم أعمى، طبعتان، 2010، 2016
22ـ فنان، طبعتان، 2010، 2016، 2022
23ـ وريقات اعتراف، طبعتان، 2010، 2016
24ـ مناسباتي، طبعتان، 2010، 2016
25ـ زغاريد الفرح، 3 طبعات، 2010، 2016 ـ 2022
26ـ دموعي، طبعتان، 2010، 2016، 2022
27ـ أعراسنا، طبعتان، 2010، 2016
28ـ خواطر، طبعتان، 2010، 2016
29ـ يوميّات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط، ثلاث طبعات، 2008، 2010، 2016
30ـ عندما يموت الشعراء، طبعتان، 2010، 2016
31ـ إضحك ببلاش، طبعتان، 2010، 2016
32ـ كتابات على حائط الغربة، طبعتان، 2010، 2016
33ـ أقوى من الجنس، طبعتان، 2010، 2016
34ـ قصائد مسليّة، طبعتان، 2010، 2016
35ـ لبنان بس، طبعتان، 2010، 2016
36ـ بلابلنا، طبعتان، 2010، 2016
37ـ كبارنا، طبعتان، 2010، 2016
38ـ إبن مجدليا، 2010، 2016، 2022
39ـ فافي، 2013
40ـ عجائب أمنا مريم العذراء (نقلته من العامية الى الفصحى). 2015
41ـ اشتقنا، طبعتان 2015، 2018
42ـ أوزان، 2016، 2023
43ـ عبلى، 2016
44ـ ترانيم 2016 مع سي دي بصوت ميرنا نعمه
45ـ صدّق أو لا تصدّق، 2016
46ـ جنية الشجر، 2018
47ـ أوراق متناثرة، 2018
48ـ أولاد العز، 2018
49ـ خماسيات حب، 2018، 2020
50ـ مشوار 2019
51ـ أحبّكِ 2020
52- نجمة الشعر 2020
53ـ مملكة الحكي 2020
54ـ مسرحيات شربل بعيني، 4 أجزاء، 2020
55ـ غداً، سوف أرحل 2021
56ـ كان يا ما كان 2022
57ـ درب الحبايب 2022
58ـ ليش حبيتك 2022
59ـ أشعار شربل بعيني، 10 أجزاء 2022
60ـ مقالات شربل بعيني، 4 أجزاء، 2022
61ـ بقابا جمر 2021ـ 2023
62ـ حين تنساب القوافي 2023
63ـ أعمال شربل بعيني الكاملة ـ الجزء الأول ـ 2003
يحتوي على الكتب التالية: أللـه ونقطة زيت، مناجاة علي، مجانين، الغربة الطويلة، أغنية حب لأستراليا، عالـم أعمى.
64 أعمال شربل بعيني الكاملة ـ الجزء الثاني ـ 2003
يحتوي على الكتب التالية: ـ معزوفة حب، مراهقة، مشّي معي، رباعيات، أحباب.
65ـ أعمال شربل بعيني الكاملة ـ الجزء الثالث ـ 2003
يحتوي على الكتب التالية: قرف، فنان، غنّوا يا أطفال، زغاريد الفرح.
وكان البعض يتساءل:
ـ من أين يأتي شربل بعيني بالمال ليطبع كتبه، طالما أنه يوزعها مجاناً، لا بل كان يرسلها بالبريد لكل من يرغب بها، ويدفع من جيبه ثمن الطوابع.
مرة قال الدكتور عصام حداد:
ـ لو وفّر شربل بعيني ثمن طبع كتبه لاشترى بناية في بيروت.
لأنه يعلم أن كلفة الطباعة عالية جداً، أضف إليها كلفة توزيع هذه الكتب مجاناً لكل من يطلبها، بغض النظر عن البلد الذي يعيش فيه.
أما من أين كان يأتي المال، فالجواب بسيط، كوني لا ألعب القمار، مثل العديد من الناس، ولا أعاشر الخمرة، حتى ولا أدخن السيجارة، فإذا حسبنا المال الذي يخسره المقامر، والمال الذي يصرفه السكير على الخمرة، وكم علبة تبغ في الشهر سيشتري المدمن على التدخين، لوجدتموني أوفر حظ منهم، وسيكون بإمكاني توفير الكثير من المال حتى بعد طباعة كتبي.
أما إذا تساءلتم لماذا طبعت كل هذه الكتب التي لم تدر عليّ أرباحاً مادية، فالجواب هو خوفي من أن يضيع أدبي العربي في غربة، كل ما فيها ومن فيها، يتكلم الانكليزية.
أبناء وبنات إخوتي لا يقرأون العربية، فمن سيجمع أدبي بعد موتي. ومن سيوزعه على العالم أجمع كما وزعته أنا. الآن بإمكاني أن أرحل وأنا مرتاح البال بأن ما كتبت سيقرأ في كل مكان.
ومن حسن حظي أن العديد من المترجمين أعجبوا ببعض مؤلفاتي فنقلوها من العربية الى لغات أخرى، لن أقول عنها عالمية، لأن العالم أشبه ما يكون بقرية صغيرة بوجود الانترنت.
ومن الكتب التي ترجمت، أذكر:
1ـ مناجاة علي: IN PRAISE OF ALI بالإنكليزية، ترجمة ناجي مراد، إلياس شعنين وجو اليموني، طبعتان: 92، 1995
2ـ مناجاة علي INVOCATION D'ALI بالفرنسية، ترجمة عبد الله خضر
3ـ مناجاة علي: Invocación de Alí بالإسبانية، ترجمة إبراهيم سعد.
4ـ مناجاة علي بالأوردية Urdu ترجمة شبير بلكرامي
5ـ رباعيّات: 1993 QUARTETSترجمة د. آميل الشدياق، إنكليزي،
6ـ أللـه ونقطة زيت1997 GOD AND A DROP OF OILترجمة مهى عبد الأحد، إنكليزي.
7ـ أغنية حب لأستراليا: 2005 LOVE SONG TO AUSTRALIA ترجمة بولا عبد الأحد، إنكليزي.
8ـ عالـم أعمى، إنكليزي2005 A BLIND WORLDترجمة بولا عبد الأحد.
9ـ 2015 شربل بعيني ومعاناة الهجرة، ترجمة نزار حنا الديراني، سرياني.
10ـ 2015 فرح ودموع Joys and Tears ترجمة ايلي شعنين، إنكليزي.
11ـ 2017ـ2018 الغربة الطويلة، Ancient Migrant ترجمة ميرنا نعمة، إنكليزي.
وهناك العديد من مزامير "مناجاة علي" التي ترجمت الى الفارسية، ولست أدري إن كانت قد جمعت في كتاب.
**
اللوحة والجائزة والتمثال
معاملتي الجيدة مع الناس كانت تجلب لي الحظ دائماً، فلقد شرعت أبواب قلبي قبل بيتي لكل من يقصدني، منهم من دخل كاللص بغية الاستفادة والهرب، ومنهم من دخل بكرامة ومحبة وصداقة دائمة.
ومن هذه المحبة والصادقة أهدتني الفنانة العالمية رندى عبد الأحد بعيني لوحة تمثلني بشكل مدهش يعجز اللسان عن وصفه، بارتفاع 90 سنتم وعرض 70 سنتم، كما سمحت لي بنشر لوحاتها الفنية على أغلفة معظم كتبي، لتجمل الكتب من الداخل والخارج؟
ومن الذين دخلوا بكرامة أيضاً، كان النحات توفيق مراد، فلقد كتبت عنه مقالَ اعتذار، كوني لم أزر معرضه ألا بعد مرور نصف قرن على وجودي في أستراليا.
والظاهر أن المقال أعجبه، فبدأ برد الجميل بأفضل منه، وما هي إلا أسابيع حتى دعاني الى معرضه المتحف، ليزيح الستار عن منحوتة خشبية لميدالية جائزة شربل بعيني.
وعندما رأيت منحوتة الميدالية كتبت:
أعترف أمامكم الآن انني كرّمت عدّة مرّات، وحصلت على عشرات الجوائز، وكتبت عني الاشعار والمقالات والكتب، ولكنني لم أحلم قط أن ينحتني إزميل نحّات عالمي مبدع اسمه توفيق مراد.
يوم الثلاثاء الواقع في 9 آذار 2021، دعانا ابن تنورين البار، انا والدكتورة بهية ابو حمد، رئيسة جمعية انماء الشعر والتراث، لزيارة متحفه الرائع.. وعندما دخلنا جنة المنحوتات القيّمة، فاجأنا توفيق بمنحوتة أذهلتنا حقاً، وعندما سألني عن رأيي بها: أجبته وأنا أخفي دموعي: لقد خلدتني.
وعندما سأل الدكتورة بهية ابو حمد عن رأيها، أجابت:
ـ يكاد يتكلم.
والمنحوتة تمثل ميدالية جائزة شربل بعيني، مستديرة الشكل بقطر طوله 120 سنتم تقريباً، وثقل يزيد عن 40 كلغ.
والسؤال الذي حيّرني وخفت أن أنطق به هو: كم من الوقت أمضى النحات توفيق مراد وهو يداعب الخشب، كي تأتي المنحوتة بهذا الجمال الخلاّب.
الشكر قليل عليك يا ابن لبنان البار، يا صديقي الكبير توفيق مراد، لذلك دعني أقبّل إزميلك.
في هذه الأثناء كان النحات نايف علوان يزورني كلما زار سيدني، وكان يهمس في أذني بأن تمثال شربل بعيني سيرى النور قريباً، وكنت أرجوه أن يترك مسألة التمثال لبعد موتي، عندئذ لن أتمكن من الاعتراض.
وللتاريخ أذكر أن النحات فؤاد الورهاني، كان قد طلب مني، قبل توفيق ونايف، أن يهديني تمثالاً مصنوعاً من البرونز، وأخبرني أن طريقة صنعه سهلة للغاية، وما علي سوى أن أتقبّل القناع الذي سيغلف وجهي، كي تنقل تقاسيمه بدقة، فأجبته:
ـ التمثال يصنع بعد وفاة الشاعر، فانتظر أرجوك.
وما زال فؤاد ينتظر، رغم انه صاحب الفكرة الاولى لتمثال شربل بعيني.
فلماذا وافقت؟، ولماذا سافرت وشاركت؟ وأنا أؤمن إيماناً صادقاً أن التماثيل لا تكون للبشر بل للقديسين، ومع ذلك كسرت إيماني، لأن من سينحت تمثالي نحت من قبل تماثيل مئات القديسين، أي أنه إزميل مقدس، لذلك لا خوف علي من يوم الدينونة.
في التاسع عشر من شهر آب 2023، رأى التمثال النور، في احتفال ضخم، رعاه وزير الثقافة اللبنانية، ودعمته البلدية والرعية،، وتكلم في الحفل الذي عرّفه الاديب وليد مخائيل فرح، كل من:
ـ الاديبة والشاعرة ميراي شحادة، التي أهدتني أجمل أرزة لبنانية.
ـ الدكتور مصطفى الحلوة
ـ الاستاذ سامي مظلوم
ـ رئيسة البلدية جومانة بعيني
ـ الاديبة سوزان بعيني
ـ كاهن الرعية الاب عبود جبرايل، الذي أهداني مخطوطة نادرة لأشعار كتبتها في مرحلة مراهقتي.
بالاضافة الى كلمتين وصلتا من أستراليا، الاولى من الدكتورة بهية ابو حمد التي أهدتني درعاً أدبياً سلمني إياه الدكتور مصطفى الحلوة، والثانية من رئيس جمعية مجدليا في أستراليا الاستاذ انطوني خوري.
وفي الختام ألقيت قصيدتين بالفصحى والعامية.
وعند عودتي الى أستراليا، استقبلني أعضاء جمعية مجدليا الخيرية بالترحاب، في منزل الرئيس أنطوني ونبيهة خوري.
هنا، كان كل شيء جميلاً، إلى أن بدأ بعض الحساد بفبركة الاقاويل حول التمثال، فتقبلتها بصدر واسع، إلا واحدة، فلقد أضحكتني كثيراً.
بينما كنت أسير في الشارع، اقترب مني رجل مريض، يجره ابنه على كرسي متحرك، وقال:
ـ هل صحيح انك صفعت النحات نايف علوان عندما رأيت التمثال بهذا الحجم الصغير؟
ـ أجل، لقد صفعته بقصيدتين جميلتين تكريماً له على هذه التحفة الفنية النادرة. أتمنى لك الشفاء العاجل، شرط أن تتوقف عن النميمة.
أما الثرثارون الآخرون فلقد صفعتهم بهذا المقال:
كثيرة هي التهاني التي وصلتني من أدباء وشعراء عرب من حول العالم، ولكن التهنئة الأجمل جاءت من مدرّب فرقة أرز لبنان الفلكلورية الاستاذ ايلي عاقوري، فلقد اتصل بي هاتفياً ليس ليهنئني بالتمثال بل بمحبة أهالي مجدليا لابنهم شربل بعيني.
كثيرون يعتقدون أن إقامة نصب تكريمي في بلدة ما أمر سهل، بدون نخوة ومحبة الأهالي، إضافة الى البلدية والرعية والجمعيات الثقافية.
الكل يعلم انني لم أكن أنوي السفر الى لبنان بسبب الاحداث التي ظهرت يومذاك، اي قبل ازاحة الستارة عن التمثال، ولكن المحبين من أبناء مجدليا شجعوني على السفر، وهكذا كان، لأجد ورشة كبيرة من جرافات ومعماريين ودهانين وحدادين وووو تعمل من أجل انشاء قاعدة تليق بالتمثال الذي أهداه لي النحات العالمي نايف علوان.
كاهن القرية الاب عبود جبرايل كان يشرف على العمل 24 ساعة في اليوم، كي يليق البناء المعد لاستقبال التمثال بأبناء مجدليا قبل أن يليق بشربل بعيني.
هذه التضحية الكبيرة انتبه لها الاستاذ ايلي عاقوري، خاصة عندما استقبلني رئيس وأعضاء جمعية مجدليا في سيدني بالأحضان، إثر عودتي من لبنان.
لقد سمعت ثرثرات كثيرة لحظة وصولي الى أستراليا.. فإلى هؤلاء أقول: لو كنتم تملكون مال الكون، ولستم تملكون محبة الناس لن تحصلوا على "خازوق" في قريتكم كي تجلسوا عليه.
لقد أحببت أهلي في مجدليا، وهم أحبّوني لدرجة حاولوا معها ان يمنعوني من السفر.
الف شكر لرئيسة واعضاء بلدية مجدليا، ألف شكر لرعية مجدليا وكاهنها المحبوب الاب عبود جبرايل، "لقد أتعبتك يا بونا"، وألف شكر لأهالي مجدليا في لبنان وسيدني ودول الاغتراب، ولكل من تكلم وكرم وهنأ وتعب من أجل انجاح المشروع، والشكر الأكبر لمبدع التمثال النحات نايف علوان. وليته سمع مني وتركه لبعد وفاتي، ولكنه أصر على أن أزيح الستارة بنفسي.
أما الثرثارون، وما أكثرهم وأخبثهم، فلسوف يقفون في يوم ما أمام عدالة السماء.. والويل لهم.
بقي أن أذكر أن جار التمثال السيد دايفيد سركيس طوبيا، هو من يعتني به، ينظفه، يحرسه، ويكلمه حتى لا يضجر في وحدته، فألف شكر له.
**
حبي الاول والثاني
حبي الأول في طرابلس وأنا ابن السابعة عشر، كاد يوقعني في بركة الماء الوسخة أمام ثانوية الحدادين في أبي سمرا، لا بل جعلني أسبح في بركة الوحل اثناء التدريب العسكري.
وحبي الثاني في أستراليا، قذفني من عن السرير، وطردني من منزل الحبيبة بسبب غشاء البكارة.
كان هذا يوم بدأت العمل في مصنع "السوبرتاكس" للحياكة، وكنت مسؤولاً عن ثماني آلات، تشرف "شيرلي" على تعبئة بكر الخيطان كي لا تتوقف، وكانت قد احتفلت بعيد ميلادها الثامن عشر معنا في المصنع، وفجأة بدأت تتودد إلي وتهديني حبوب الشوكولا وغيرها، وكانت والحق أقول جميلة جداً، فأوقعتني بغرامها.
ذات يوم طلبت مني أن أوصلها الى بيتها القريب من المصنع، فوافقت دون تردد، وعندما وصلنا، دعتني لتناول فنجان شاي، بعد أن همست في أذني:
ـ أمي ليست في المنزل.. أدخل.
فدخلت، فإذا بها تغيب لبرهة ثم تعود وقد ارتدت ثياباً شفافة، ومن دون أن أنتبه، جذبتني من يدي، وأدخلتني غرفة النوم وهي تقول:
ـ أرني رجولتك أيها الشاب اللبناني.
ـ ولكن..
ـ هس.. ولا كلمة.
ـ لقد أخذتني على حين غفلة، لم أتوقع منك هذا..
وكيف أتوقع، وقد هجمت على شفتي وهي تتمتم:
ـ لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً..
ـ هذا لا يجوز، أنت فتاة عزباء..
ـ وانت شاب أعزب، أرني رجولتك..
هنا، بدأت الأفكار تتلاطم في رأسي، ورحت أتذكر كلام عجائز القرية وهن يحذرننا من مغبة التلاعب بأفئدة الفتيات والنيل منهن:
ـ من يهتك بكارة البنت عليه أن يتزوجها، وإلا سيدخل السجن.
يا إلهي.. صحت في سري، من أين لي أن أتزوج هذه الفتاة وأنا مغترب طازج؟ لا، لا، علي أن أتصرف..
فقلت، وأنا جاثم فوقها:
ـ أريد أن أسألك شيئاً.. هل أنت عذراء؟
وما أن انتهيت من عبارتي اللعينة هذه حتى رفستني كالثور الهائج في صدري، ورمتني خارج السرير، وهي تصيح:
ـ هل تعتقد أنك الرجل الوحيد الذي أعجب بي؟ أنا، أيها اللبناني الفاشل، فتاة جذابة، مارست الجنس مع كثيرين، منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري، ولم أندم إلا هذه الساعة. أخرج من بيتي، لا أريد أن أرى وجهك بعد اليوم.
عندها أدركت أن عذرية الفتاة لا قيمة لها في أستراليا، وأن عبارة "هل أنت عذراء؟" ممنوع التلفظ بها أبداً، وإلا ستطير كما طرت أنا خارج السرير، فالجنس أصبح مباحاً، ينظرون إليه كحاجة ماسة لإراحة الجسد، تماماً كالجوع الذي يريح البطون، عكس الشرق الذي يعتبره رذيلة الرذائل.
كنت كلما أخبرت هذه القصة، أتذكر جارتي التلميذة التي اعترفت لأبيها بأنها حامل من أحد رفاقها في المدرسة، فما كان منه إلا أن سألها:
ـ مع كم شاب مارست الجنس؟
ـ مع ثلاثة شبان..
ـ أريد أن أتكلم معهم، اجلبيهم الى هنا.
وكان صراخه يصل الى أذنيّ دون أن أسترق السمع.
وذات يوم كنت أشرب القهوة مع أمي في حديقة البيت الأمامية، فإذا بثلاثة شبان يقفون أمام بيت الجار في الشارع، والبنت الحبلى تقف بمواجهتم، فاقترب منها أبوها وسألها:
ـ من منهم والد الجنين الذي في بطنك؟
فدلته على أحد الشبان، فنظر اليه وقال:
ـ إجلب والديك، يجب أن نعيّن العرس.
فأجفل وصاح:
ـ لست أنا.. قد يكون هذا أو هذا أو غيرهما، فابنتك كانت سهلة للغاية.
فصاحت الفتاة:
ـ بل أنت.. هذا الجنين هو منك.
فغاب الشاب عن الوعي ووقع أرضاً من هول الصدمة، إذ كيف سيتزوج وهو يرتدي الثياب المدرسية، أي أنه ما زال طالباً في الصفوف التكميلية.
وصدقوني أنني ضحكت عندما وقع الشاب أرضاً، لأنني تذكرت نصيحة عجائز بلدتي مجدليا عندما نبهننا بأن من يتلاعب بأفئدة الفتيات والنيل من شرفهن سيتزوج بهن لا محالة، لأن جاري البريطاني الأصل، قد نفّذ حكمهن بحرفيته، وأين؟ في أستراليا.
أمي لم يعجبها ما سمعت ورأت، فالتفتت إليّ وقالت:
ـ هذا هو الفرق بين الشرق والغرب، بين الشرف والعهر.. بين الحياء والفجور. أرجعني إلى مجدليا، كي أزوجك أجمل وأرق فتاة في القرية، عندها تعرف ان الجنين منك وليس من هذا أو هذا. ارحمني يا رب.
فقبلتها على جبينها الطاهر وأنا أهمس في أذنها:
ـ لم يعد هناك شرق ولا غرب يا أماه، فالكون أصبح قرية صغيرة، وما يحصل في الشمال يعلم به الجنوب والشرق والغرب لحظة حصوله. والغريزة الجنسية تسيّر الانسان ولا تخيّره، إنها تفتك بالجسد الى ان تبلغ نشوتها.
والظاهر أن أمي لم تستوعب الأمر، بل راحت تردد كلما مرّت تلك الفتاة الحبلى أمامها:
ـ هذا أو هذا أو هذا، وكأن الجنين يباع بالمزاد العلني!
أما ذلك التلميذ المراهق، الذي أجبروه على الزواج من جارتي، فلقد أنجبت له ابنة، ولكن الطلاق وقع بعد عدة أشهر من الولادة. الم يقل المثل الشعبي: البلد التي يحكمها ولد لن يسكنها أحد، وهكذا العائلة؟.
**
أريد قبلة
علاقتي مع طلابي كانت أكثر من متينة، وقد حدثت لي معهم حكايات لا تصدق، سأذكر واحدة منها كي لا اطيل.
عام 1980، بدأت التدريس بدوام كامل في معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك، وكنت قد دخلته عام 1979، بدوام جزئي، لذلك بدأ الطلاب يتعرّفون عليّ، ويتفرّبون مني، إذ كنت أخبرهم قصصاً قصيرة، باللهجة اللبنانية، قبل الدرس، وكانت قصصي ذات تأثير سحري على الطلاب، لا بل راحوا يخبرونها لأهاليهم.
قصصي تلك لم تكن فوضوية، بل كانت تحتوي على دروس أخلاقية بأسلوب مرح. إذ كان همي الأول تهذيب الاطفال كي يصبحوا وجه الجالية اللبنانية المضيء، من ميل آخر، كانت تجبرهم على الانصات لكل مفردة باللهجة اللبنانية، إذ ما نفع الطالب الذي يقرأ الفصحى، ولا يتكلم بلسان أمه.
وفي العام الذي بدأت فيه التدريس بدوام كامل، التحقت "سامية" بالصف الخامس ابتدائي، وهي طالبة مهجرة من جنوب لبنان، وكنت اراها تجلس لوحدها حزينة والدموع تترقرق من عينيها كل يوم، لا تكلّم أحداً ولا تقترب من أحد، فقررت أن أهدم جدار صمتها، وأن أبدأ بالتحية:
ـ مرحبا، تعرفين إسمي اليس كذلك؟.
ـ نعم استاذ بعيني
ـ أخبريني يا سامية لماذا انت حزينة وباكية؟
ـ لأنهم قتلوا ابي، واصبحت يتيمة في بلد لا أفهم لغته.
ـ وكيف كان يناديك الوالد، رحمه الله.
ـ دكتورة سامية.. كان يريدني أن أصبح طبيبة.
ـ إذن، ستصبحين طبيبة، وستفرّحين قلب والدك في ملكوته السماوي.
ـ أتمنى ذلك من كل قلبي..
ـ هل أنت بحاجة الى دروس إضافية باللغة الانكليزية؟
ـ ومن أين لي المال كي أدفع لمعلم خصوصي؟
ـ أنت قولي نعم وانا سأتصرف..
ـ نعم وأشكرك..
فذهبت في الحال الى غرفة المعلمة الحنونة العظيمة "سو مونداي"، التي مكنت الكثيرين من الطلاب المهاجرين، وفي أوقات فراغها، من التكلم باللغة الانكليزية وكأنها لغتهم الأم، دون أن تتقاضى دولاراً واحداً.
دخلت، فرحبت بي كالعادة، وقالت وهي تضحك:
ـ من هي الضحية هذه المرة؟
ـ إنها "سامية" الفتاة الجديدة في الصف الخامس، أنظري اليها كيف تجلس وحيدة والدمعة في عينيها، هل بالامكان أن تمدي لها يد العون، كما فعلت مع عشرات الاطفال.
ـ أنتظرني هنا، سأذهب وآتي بها، وانت ستترجم لي.
وبعد لحظات عادت مع سامية وهي تضحك وتقول:
ـ سامية تتكلم وتقرأ وتكتب الفرنسية، أي أنها مشروع ناجح في اللغة الانكليزية، لا داعي للترجمة، سنتفاهم جيداً.
وبعد اسابيع خف حزن سامية، وتلاشى انطواؤها، وأصبحت تتكلّم الانكليزية مع رفيقاتها، لا بل أصبحت الأولى في صفها، وفي عام 1981 انتقلت الى الصف السادس الذي تعلمه "سو مونداي".
في تلك الأيام كان على طلاب وطالبات مدرسة سيدة لبنان الذين ينهون الصف السادس، الانتقال الى مدرسة ثانوية أسترالية، إذ لم تبنَ بعد ثانوية سيدة لبنان، لذلك لم أعد أعرف أو أسمع أي شيء عن سامية.
وذات يوم، ذهبت برفقة أخي جوزاف الى شاطىء منطقة "أفالون"، حيث كتبت قصائد ديوان "معزوفة حب" ونشرته عام 1989، وبينما كنت آكل لمع ضرسي بشدة، وكاد الوجع ان يرميني أرضاً، فطلبت من أخي أن يسأل الناس الذين حولنا عن عيادة طبيب للأسنان، فدلونا على واحدة في منطقة قريبة.
دخلت العيادة، وطلبت موعداً سريعاً، لأن الوجع لا يصدق، فرفضت السكرتيرة طلبي، ورجتني أن آتي مرة أخرى بعد الحصول على موعد رسمي مسبق.
وما أن انتهت من محاولة طردي، حتى رن الهاتف، وإذا بها تحدق بي وتقول:
ـ ارجوك، إجلس هناك، وسأدخلك بعد برهة.
دخلت، فوجدت أمامي فتاة طويلة وجميلة تضع النظارت الوقائية والقناع الطبي، وطلبت مني بالانكليزية أن أجلس وأفتح فمي.
ترددت كثيراً قبل أن أفتح فمي، ورحت أنظر الى الادوات الكثيرة الموجودة في العيادة، فسألتني:
ـ هل أنت خائف؟
ـ أجل..
ـ لا تخف، لن أستعمل إبرة البنج.
ـ شكراً..
وبعد أن أنتهت من إصلاح ضرسي المريض، سألتها عن المبلغ المتوجب عليّ دفعه، فقالت:
ـ أريد قبلة..
ـ ماذا؟!.. هل جننتِ؟..
ـ لن أتركك تخرج قبل أن أقبلك..
ـ أرجوك دعيني أذهب، هذه محفظتي خذي ما شئت من المال..
هنا تكلمت باللهجة اللبنانية وقالت:
ـ أهلا بالاستاذ شربل بعيني.. هل ما زلت تعاني من فوبيا إبرة البنج "والخربر"؟
ـ من أنتٍ بحق السماء؟
ـ سامية.. دكتورة سامية.. والفضل كل الفضل يعود لك يا معلمي.
ـ ولكن اسم عائلتك أجنبي..
ـ لقد التقيت طبيباً أسترالياً في الجامعة، أحببته وأحبّني، وتزوجنا منذ سنة تقريباً.
ـ لو علمت بعرسك لأتيت..
ـ كنت أريدك أن تدخلني الكنيسة مكان المرحوم والدي، ولكن عرسي كان سريعاً، والآن أدر خديك الأيمن والايسر لأقبلهما، القبلة على الخد الأيمن لك، أما التي على الخد الايسر فللمعلمة "سو مونداي"، بلغها سلامي.
وقبل أن أخرج، قالت:
ـ أتذكر القصة التي أخبرتنا إياها في الصف السادس عن هروبك من عيادة طبيب الاسنان، هناك الكثير من أمثالك يعانون من هذه الفوبيا.
ـ كان علي أن أنتبه عندما قلت لي، عند دخولي، انك لن تستعملي إبرة البنج.
ـ لقد أخبرت هذه القصة للطلاب في الجامعة فضحك الجميع. إنها من أجمل القصص التي كنت تخبرنا بها كي تحببنا باللغة العربية.
ـ لقد جعلتني أعيش أجمل يوم في حياتي.
ـ وأنا أيضاً..
هنا، أدخلت يدها في زندي، وقالت:
ـ دعني أرافقك.
وما أن اقتربنا من الباب الخارجي حتى التفتت الى السكرتيرة وصاحت بفرح:
ـ هذا هو معلمي الذي أخبرتك عنه: مستر شربل بعيني.
**
الطرد من الفندق
مثلما مرّت أيامي الجميلة مع الطلاب، مرّت أيضاً أيام مؤلمة، فلقد رافقت تلامذة الصف السادس عام 1994 برحلة الى مدينة "كانبرا"، ليتعرفوا على عاصمة بلادهم، ويكتبوا عن الاماكن التي سيزورونها تقريراً مصوراً، كوظيفة مدرسية.
بعد رحلة استغرقت أكثر من ثلاث ساعات بالحافلة، وصلنا الى مدينة صممها والتر بيرلي غريفين عام 1911، في وسط ثلاث تلال (الجبل الأسود، وجبل أينسلي، وموجا موغا) شمال وجنوب بحيرة مزخرفة تتكون من سلسلة من الأحواض المتصلة.
وبدأ الاطفال يتراكضون لالتقاط الصور، ويتنقلون من البرلمان الفيدرالي، إلى المتحف العسكري، إلى برج تليسترا، الى المكتبة الوطنية، دون أن يتعبوا، وكيف يتعبون والبهجة تغمر قلوبهم.
عند الساعة الخامسة مساء، وصلنا الى فندق مؤلف من غرف مستقلة وموزعة على مساحة واسعة، وعندما دخلنا الصالة لتناول العشاء، وجدت أن شباناً من الصف العاشر ثانوي، يشاطروننا غرف الفندق، فانقبض قلبي، وأحسست أن شيئاً سيئاً قد يحدث.
أثناء العشاء، وزعت المعلمة "سو مونداي" مفاتيح الغرف، وأعطتني لائحة بأرقامها، وكنت كل ساعة تقريباً أخرج من غرفتي وأتفقد غرف أطفالنا، فإن وجدت أحدهم خائفاً كنت أسمعه صوتي كي يطمئن ويخلد للنوم.
برد "كانبرا" كان شديداً جداً في تلك الليلة، يرافقه مطر خفيف بدأ ينهمر، والساعة قد قاربت الثالثة فجراً، ولم يغمض لي جفن بعد، فقررت أن أخرج لأتفقد غرفنا التي أحمل أرقامها، فوجدت إحداها مضيئة، وسمعت بكاء فتياتنا، فاقتربت بحذر شديد، فإذا بي أجد شابين يحاولان الدخول الى الغرفة من الشباك الخلفي، فهجمت عليهما، وأمسكت باحدهما، وفر الثاني هارباً، وعندما سمعت الفتيات الخائفات صوتي، فتحن الباب وخرجن، وهن يرتجفن من الخوف، فأوقفت الشاب في منتصف ساحة الفندق، وصحت بصوت عالٍ:
ـ استيقظوا.. أجل استيقظوا.. حالاً، حالاً..
وبدأت أنوار الغرف تشع، وبدأ الجميع يخرج منها، معلموهم ومعلماتنا، طلابهم وطلابنا، وتحلقوا حولي كدائرة، وأنا ممسك بذلك الشاب الشقي، وأصيح:
ـ كيف تنامون وطلابكم يحاولون الاعتداء على فتيات صغيرات؟ هذا الطالب مع رفيق له، حاولا الدخول الى غرفة فتياتنا من الشباك الخلفي، أنظروا الى هؤلاء الفتيات الاربع، كيف يرتجفن من شدة الخوف.
فإذا بمدير الفندق يقترب من الشاب ويقول:
ـ إذا لم تعتذر أنت وصديقك، سأرسلكما الى السجن بتهمة الاعتداء على فتيات قاصرات.
فصاحا بصوت واحد:
ـ أردنا أن نمزح فقط.. سامحونا. نحن نعتذر، والله لم نفصد شراً.
فالتفت مدير الفندق الى المعلمين وقال:
ـ بينما أنتم في سابع غفوة، كان هذا المعلم يسهر على راحة طلابه. أنتم مطرودون من فندقي، إذهبوا الى غرفكم واجلبوا امتعكم، واغربوا عن وجهي، ولن تدخلوا فندقي بعد اليوم.
ركبوا الحافلة، وغادروا عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً، ولم يبقَ في الفندق إلا طلاب معهد سيدة لبنان، فالتفت اليهم وقلت:
ـ الآن، بإمكاني أن أنام، إذهبوا الى غرفكم وتنعموا بأحلام سعيدة.
وبعد أسبوع من رجوعنا، استلمت إدارة المدرسة رسالة اعتذار من مدير مدرسة ماركفيل الرسمية، وأعتقد أن الرسالة ما زالت محفوظة في أرشيف المدرسة.
**
الوسام الضائع
لقد اعتدت، والحمد لله، على أساليب المحاربات التي يتبعها بعض الجهلاء ضدي، فما أن علموا بأنني منحت وساماً بيوم المسن العالمي، تقديراً لي على إهداء مكتبة كاملة لمركز المسنين العرب في منطقة "بانشبول"، مزينة بكتب عربية شيقة ومفيدة، قد تمنحهم السلوى والمعرفة في غربتهم المضجرة.
وما أن علم رئيس المسنين العرب السيد راشد الحلاب بالموافقة على منحي الوسام حتى قام بتوزيع الخبر إعلامياً على نطاق واسع، مما أجج نار الغيرة عند بعض السفهاء فتصرفوا بسرعة كي لا يصل الوسام، وهذا ما ما حصل بالفعل.
عام 1990، وفي اليوم المحدد الذي ستسلم به الأوسمة، وكان يوم عمل، ومع ذلك وافقت الاختان العزيزتان كونستانس الباشا ومادلين بو رجيلي على مرافقتي، ضاربتان عرض الحائط بمهماتهما المدرسية، يكفي أن يكونا بجانب أخيهما شربل يوم تكريمه.
تجمّع الناس في القاعة، وكان معظمهم من العجائز، فاليوم يومهم، ومن حقّهم أن يحتفلوا. وما أن بدأوا بتوزيع الأوسمة على مستحقيها، حتى بدأت الأسماء تلمع، والتصفيق يتصاعد دون أن يمر إسمي بين الأسماء.
وبسرعة البرق صعد رئيس المسنين العرب الى المسرح وصاح:
ـ أين وسام الاستاذ شربل بعيني؟
ـ غير موجود!
ـ هناك خطأ ما.. هذا عيب بحق تجمع المسنين العرب، وبحق من أهداهم أجمل مكتبة عربية.
ـ راجع الوزارة.
وبدلاً من أن أحزن، فرحت، لأنني علمت مسبقاً من أن هذا ما سيحصل، فلقد تقدم السفير لطيف ابو الحسن بطلب منحي وسام الارز، ولكن الطلب رفض.
ولقد وعد السيد نبيل قدومي بتسليمي هدية من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ولكن الهدية لم تصل.
لقد تعودت على غدر السفهاء، لا بل تلقحت ضده، لذلك لم أهتم كثيراً بالتكريم والجوائز لأن ما سأتركه للناس من ادب هو ما سيخلدني.
ولنعد الى قصة الوسام الهارب، فلقد أرسل لي نائب منطقة لاكمبا "ويز دافرون" رسالة شكر وتقدير على ما قدمته من أعمال خيرية تصب في مصلحة المسن العربي.
وفي الصحف المهجرية صدر بيان هذا نصه نقلاً عن جريدة صدى لبنان، العدد 685، 13/3/1990:
نقولها هكذا، بدون تكليف ولا ألقاب.. لأنك حقاً صديق لتجمّع المسنين العرب ككل، وصديق لرئيس هذا التجمّع ومدير إعلامه، وقد كنت دائماً من السبّاقين في تشجيع التجمّع في كل عمل نافع يقوم به، وأنك لا تترك مناسبة إلا وتتحدّث وتثني على هذا التجمّع وإدارته. وإنها لشهادة بألف. ولكن هناك أمراً نريد أن يعلم الجميع بفضلك فيه، ألا وهو مكتبة المسنين العرب، التي كنت أنت سبب وجودها ومزوّدها بالكتب الأدبيّة والشعرية والثقافيّة القيّمة. فلـم تبخل عليها بأي من كتبك، ولـم تدخر وسعاً بتذكير أصدقائك من الكتّاب والادباء والشعراء اللبنانيين والعرب في أن يهدوا هذه المكتبة من نتاجهم الأدبي والفكري والثقافي والشعري، حتى امتلأت رفوفها، وأصبح المسنون العرب يغرفون من معين ثقافتها الكثير، وأصبح الضجر، عدوّهم الأول، يتوارى بين صفحات كل كتاب يقرأونه.
إن التجمع أيها الشاعر المجدّد، الذي لا ينضب له معين، يتقدّم منك بالشكر الجزيل، ويعترف لك بالجميل، ويتقدم بالشكر والامتنان من اديب وشاعر تكرم واهدى مكتبة المسنين العرب كتاباً.
جازاك الله ايها الصديق شربل، ذلك القديس الذي سميت باسمه، ونراك تسير على خطاه ودربه.
باراك الله لنا وللبنان وللعرب فيك، وسلمت يداك.. وشكراً
رئيس تجمّع المسنين العرب
راشد الحلاب
الحرب لم تنتهِ هنا، بل راحت تتوسع وتمتد بعد أن تدخل بالامر نواب كثيرون من مختلف الاحزاب، إذ لم ينم تجمع المسنين العرب على الاهانة التي وجهت له من خلال وسام شربل بعيني، فجاءهم الجواب:
ـ سيصل الوسام الى شربل بعيني بالبريد، فتوقفوا عن الملاحقة.
وراح هاتف المنزل يرن يومياً، ويتساءل المتصل:
ـ هل وصلك الوسام؟
ـ لم يصل بعد..
وإلى الآن لم يصل الوسام، ومات من مات، وعاش من عاش، وبقيت الكلمة الصادقة، وحدها، أجل وحدها، تتباهى على جميع الاوسمة.
**
تعريف الفنانين
رحلتي مع التعريف الفني طويلة وشيقة، فلقد قدمت عشرات الفنانين والفنانات، من لبنان والعالم العربي والمهجر الاسترالي، فاكتسبت خبرة لا بأس بها في التعامل مع الوسط الفني، المضروب أخلاقياً وللأسف.
وأول فنان قدمته شعرياً، كان ابن بلدتي مجدليا المرحوم الياس المقدسي، الذي لحن لي باقة من أجمل الأغنيات، وأعتقد أن هذا التقديم الشعري لأحد الفنانين عام 1969، كان الأول من نوعه، ومن ثم تبعني باقي الشعراء، وإليكم ما قلت:
شفت الصبيه النايمه فوق الحرير
قللتها يا بنت أوعى تنعسي
من بلاد الفن جاييكي أمير
صوتو حلو ونقرات عودو مقدسه
قالت شو إسمو؟ واستحت، قللتلها:
لا تستحي من الياس حنا المقدسي
أثناء تقديم الحفلة الاولى للفنان ملحم بركات، في قاعة "الأوكرنيان" بمنطقة "لدكمب" عام 1989، حصل شيء أخافني، فلقد تهجم ملحم على أحد العازفين، وكان كبيراً في السن، فترك مقعده واتجه نحوي خلف الكواليس، وهو يبكي، ويلعن حظه، فاقتربت منه، ورحت أخفف عنه ببعض الكلمات اللطيفة، فأمسك بزندي وقال:
ـ أسمعت بزعماء الحواجز في لبنان؟
ـ سمعت..
ـ إنهم أرحم من ملحم بركات..
ـ ولكنّك نشّزت، ومن حقّه أن يغضب..
ـ أليس من الأفضل أن يكلّمني بلطف..
ـ ما قاله لك، سمعت مثله في عشرات الحفلات التي قدمتها، فلا تدع الأمور تزداد سوءاً.. ارجع الى مكانك واعزف بدون نشاز، وأنا على يقين من أن ملحم سيقبل جبينك بعد انتهاء الحفل.
ونجحت حفلة ملحم، ولكنني قررت أن لا أقدّم ما تبقى من حفلاته، وأنا المغرم بفته حتى الثمالة، لا لشيء، بل كي لا أخسر محبتي واحترامي له.
وعندما علم متعهد حفلاته السيد جان سمعان بأنني لن أقدم ما تبقى من الحفلات، جن جنونه، وكان صديقاً مقرباً لي، فجاء الى معهد سيدة لبنان، ووقف في طريقي وهو يصيح:
ـ ستقدم باقي الحفلات.. لن أسمح لك بأن تعاملني بقلة احترام، وأنت صديقي ومعلم أولادي.
ـ دبّر عريفاً آخر.. عندي ظروفي الخاصة.
وفي عام 1990، زارت أستراليا الفنانة عايدة أبو جودة، فقدمت حفلتها الأولى، في قاعة "الأوكرانيان" بمنطقة "لدكمب"، وبعد أن قدمتها، بدأت بالرقص السريع، وكنت أراقبها من خلف الكواليس، فإذا بشيء يشبه الطابة المستديرة يطير في الجو، ويتجه صوبي، فما كان مني إلا أن التقطه، فإذا بها، وبخفة مدهشة، تنتشه من يدي وتعيده الى مكانه في الصدر، وهي تقول:
ـ شكراً.. لا تؤاخذني.
أما من حفلتها الثانية فقد هربت بجلدي، لأنني وجدت أن المتعهد قد جمّع ما هب ودب من أذناب الاحزاب اللبنانية المتحاربة في الوطن، وان الوضع كاد أن ينفجر عدة مرات، لولا تمكني من الامساك بالجمهور، حتى لا تقع إصابات كما حصل في حفلتها الثانية في قاعة كنيسة سيدة لبنان، حيث وقع ما خفت منه ونقلوا الى المستشفيات عشرات الجرحى.
وفي عام 1988، أطلت الفنانة بسكال صقر، بدعوة من المتعهد ميشال صقر، فقدمت حفلة ناجحة جداً، ولكنها طلبت مني طلباً لم يطلبه أي فنان من قبل، ألا وهو أن أمسح الميكرفون بالكلينكس جيداً، حتى لا تلتقط الجراثيم المتواجدة فيه، وبينما كنت ألبي رغبتها، وجدتها تنظر إليّ من خلف الكواليس كي تتأكد من نجاح المهمة.
وأعترف أن إعجابي بباسكل كان شديداً، وبدأت تنمو بيننا أواصر الصداقة، وبينما كنت أنقلها بسيارتي، أخبرتني أن المبلغ المتفق عليه لم يصل الى حسابها بعد:
ـ ميشال لم يدفع بعد..
ـ هل أنت متأكدة، إنه رجل محترم..
ـ المبلغ لم يصلني بعد..
وكنت على معرفة جيدة بالمتعهد، فاجتمعت به وأقنعته بدفع المبلغ كاملاً. فرحت باسكال وشكرتني، ولكنها أخبرتني أن بحوذتها أكثر من 200 شريط غنائي، ولا تدري كيف تتخلص منها.
ـ سأشتريها منك، وأقدمها باسمك الى راهبات العائلة المقدسة في معهد سيدة لبنان.
ـ وكيف سيكون ذلك؟
ـ هذا الاحد، سيقام نشاط لجمع التبرعات لدعم المدرسة، وسنبيع الاشرطة، والريع سيكون للراهبات.
وهكذا صار.
وفي العام 1988 أيضاً، زارتنا الفنانة جوليا بطرس، فأقيم لها حفل في "السبورت سنتر" في منطقة "هامبوش"، وبعد أن قدمتها بقصيدة رائعة، وجدتها خائفة وهي تصعد الى المسرح، فسألت الصديق طوني سعد، الذي أتى بها الى مدرسة سيدة لبنان كي تطلب مني تقديم حفلها، فقال:
ـ لست أدري ما أصابها خلف الكواليس، لقد خفت عليها، عندما رأيتها ترتجف قبل أن تلاقي جمهورها.
ـ هذه الرهبة تصيب الجميع، وقد أصابتني أنا مراراً.
ـ صحيح انها نشّزت في مطلع أغنية يا جنوب، ولكنها تداركت الامر، وعادت الى طبيعتها.
ـ لا بل نجحت وأبدعت..
أما الفنان طوني حنا، فلست أذكر السنة التي قدمته بها في أستراليا، ولكنني لا أنسى ساعة اقترب مني، وهو يغني، في صالة "الوايت هاوس" في منطقة "غرانفيل"، بغية تكريمي من خلال ارتشاف بلعة من كأسي، فإذا به يصرخ في أذني:
ـ ما هذا.. أتشرب الكولا فقط؟
فأعاد الكأس الى الطاولة، وهو يضحك، ولكنه لم يسمعني عندما قلت له:
ـ أنا لا أشرب الكحول أبداً.. إنها تؤذي معدتي.
طوني حنا، كان فناناً بكل ما للكمة من معنى، وأعتقد، لا بل أجزم، انه كان الوحيد، من بين مئات الفنانين الذين قدمتهم، الذي اتصل بي ليشكرني، قبل أن يصعد الى الطائرة.
قصص كثيرة حصلت معي، سأتخطاها كي لا اطيل، ولكن علي أن أخبركم، وأقسم على ذلك، انني لم أتقاضَ دولاراً واحداً من جميع الحفلات التي قدمتها، لا بل كنت أدفع ثمن بطاقة الدخول كي أساعد المتعهد والفنان في آن واحد.
**
رحلتي مع الراهبات
معهد سيدة لبنان في هاريس بارك، أهديته نصف عمري تقريباً، فلقد أقسمت منذ دخولي إليه أن أكون الراهب المدني الذي يمد يد العون لأخواته الراهبات الفاضلات.
الراهبة الاولى التي دخلت قلبي ولم ترحل عنه حتى يومنا هذا هي الأخت كونستانس الباشا، وأذكر يوم رحل أخوها إلى الملكوت السماوي، كيف التفتت إلي وقالت:
ـ أتريد أن تصبح أخاً لي؟
ـ ستكونين أختي ولن يفرقنا إلا الموت.
وقد اهديت الاخت كونستانس الكثير من الأغنيات التي غنّاها أطفال المعهد عام 1995، اختار منها:
ـ1ـ
عِنْدِي زَهْرَه رِبَّيْتَا
وْدَمْعات الْعَيْن سْقَيْتَا
بَدِّي قَدِّمْها هْدِيِّه
للأُخْت اللِّي حِبَّيْتَا
ـ2ـ
كُونْستانْس.. اللِّي هِدْيِتْنَا
أَحْلَى طَلِّه.. وْحَبِّتْنَا
يَا زَهْرَه غِلِّي بِالإِيدْ
إِيدَا يَاما نَشْلِتْنا
أيضاً تعاملت مع الأخت مادلين بو رجيلي، صاحبة الكف الذهبي، لآنها كانت تجمع المال لبناء الدير دون أن تلمسه، أو تلتفت إليه.
وأذكر يوم اخذتها في سيارتي الى مدينة ملبورن، لزيارة ابنة أخيها أو أختها، لست أذكر، وعلى جانبي الطريق الطويل امتدت مروج خضراء ولا أجمل، فالتفت اليها وقلت:
ـ انظري يا أختي، ما أجمل هذه الطبيعة.
فأجابتني:
ـ ملكوت السموات أجمل بكثير، وهذا ما أصبو إليه.
وقد أهديت الاخت مادلين العديد من الأغنيات التي غناها الاطفال عام 1995، أختار منها:
ـ1ـ
كانْ يا ما كانْ
كانْ في رَاهْبِه
عَمْ تِحْلَم بْلُبْنانْ
وْكانْ فِي غُرْبِه
بِتْعَذِّب الإِنْسانْ
ـ2ـ
الْعِينَيْنْ نَطْرِتْها
الِقْلُوب نَطْرِتْها
يا سَيّدِةْ لُبْنانْ
ما بْتِنَّسَى مادْلانْ
لا تْفَكّري الْبُنْيانْ
بِيطالْ قَامِتْها
بعدهما، أطلت الاخت أيرين بو غصن، فتعرفت على راهبة تعمل من أجل نصرة ديرها، كانت مع الحق، لأن الحق أقوى من الباطل، لذلك كانت تعطي كل ذي حق حقه، فأحببت فيها القوة الصادقة، المستمدة من إيمانها المسيحي القائل:
ـ كل ما تفعلونه مع إخوتي هؤلاء الصغار فمعي تفعلونه.
وعلى إيامها أنتجت أجمل مسرحياتي، فلقد كانت تؤمن بأن المسرح الطفولي مدرسة بحد ذاته، من خلال حواراته يتعلم الاطفال المغتربون النطق بلغتهم الام، ولكي تثبت القول بالفعل، مثلت هي أيضاً مع الاطفال في مسرحية "المدرسة" عام 1996. لا بل كانت الرئيسة الوحيدة التي كرّمتني عام 2001 بمناسبة عيد المعلم في أستراليا.
وأيضاً، أهديت الأخت إيرين الكثير من الأغنيات التي غناها الأطفال عام 1995، أختار منها:
ـ1ـ
أَهْلا بِالرَّاهْبِه أَيْرِينْ
أَهْلا وْسَهْلا
إِسْمِكْ خَيْرات بْسَاتِينْ
وْرَسْمِكْ ما بَدُّو تلْوِينْ
مْنِ الْوَرْدِه أَحْلَى
ـ2ـ
مْنِهْدِيكِي بْأَرْض الْهجْرانْ
بَاقات قْداسِه وْإِيمانْ
يا أَرْزِه.. حَبِّكْ لُبْنانْ
يا رَاهْبِه.. خْطَبْتِي الدَّيَّانْ
أَهْلا وْسَهْلا
وإن أنسى لا أنسى زيارة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الى المعهد عام 1993، وكيف استقبله الاطفال بأغنيات كتبتها ترحيباً به، أختار منها:
ـ1ـ
طَلّ الْبَطْرَكْ.. أَعْظَمْ بَطْرَكْ
مارْ نِصْراللّـه الْـ مِنْحِبُّو
يا مَعْهَدْنا جَمِّعْ زَهْرَكْ
تا نْرِشّ الزَّهْر بْدَرْبُو
عَ إِنْطاكْيَا وْكِل الْمَشْرِق رَاخِي ظِلُّو
وِمْخَبَّى الْكلّ بْقَلْبُو
ـ2ـ
أَهْلا بْبَطْرَكْنا أَهْلاَ
بِوْجُودَكْ نِحْنَا مْنِسْعَدْ
وْغُرْبِتْنا فِيك بْتِحْلَى
مْمَجَّدْ بِالشَّرْق مْمَجَّدْ
دَخِيلْ قَلْبَكْ، شُو مِنْحِبَّكْ، يا بَطْرَكْنا
دَمْعات الْعَيْن انْسَكْبُوا
ـ3ـ
نِحْنا زْغارْ وْإِنْتَ كْبِيرْ
خَلِّي إِيدَيْك يْفَيُّوا
عَ الطّفْل الْـ بِتْحِبُّو كْتِيرْ
مْحَبِّةْ أُمُّو مَعْ بَيُّو
يا ما نْطَرْنا، وِتْعَطَّرْنا بِـ غُرْبِتْنا
الْـ فِيها الْعِينَيْن انْصَلْبُوا
ثلاثون سنة مرت في المعهد، وكأنها يوم واحد، ولكن ذكراها ستبقى للأبد.
**
كتبي المدرسية
عندما التحقت عام 1980 بمعهد سيدة لبنان، كمدرس للغة العربية، لم أجد كتباً أستند إليها في جميع مراحل الصفوف الابتدائية التعليمية. فالحرب الأهلية اللبنانية في ذلك الوقت كانت تبعدنا عن الوطن نفسياً وعملياً، ومن الصعب أن نستورد منه الكثير من الكتب المتنوعة، والحال فيه تزداد من سيىء الى أسوأ.
ـ ما العمل؟
سالت الأخت مادلين بو رجيلي، فرمت بين يديّ بعض المواد التي حضّرتها بنفسها، ففرحت بها، ولكنها لم تكن كافية أبداً، فقررت أن أبدأ من الصفر، ورحت أعد الكتب التي سأدرسها في الصفوف السادسة والخامسة والرابعة إبتدائية، وحالفني الحظ، لا بل حالف المعهد، عندما علمت أن وزارة التعليم في ولاية نيو ساوث ويلز، بدأت تهتم وتشرف على كتب اللغة العربية، بغية طباعتها وتوزيعها مجاناً على مدارس الولايةً.
"القراءة السهلة" كان كتابي الاول الذي طبعته الوزارة عام 1984، وأعيدت طباعته عام 1995. وكان موجهاً للصف السادس ابتدائي.
معظم قصص هذا الكتاب حصلت معي فعلاً، خلال زيارتي الأولى لمدينة "برزبن" وخاصة منطقة "سيرفس بارادايز"، وقد دونتها بطريقة تشد التلميذ اليها، لا بل كي يفرح بها.
وفي السنة ذاتها اي 1984، وافقت الوزارة على طبع كتابي "سامي وهدى" الموجه للصف الخامس ابتدائي، وأعيدت طباعته عام 2000.
هذا الكتاب يحتوي على قواعد اللغة العربية، حاولت فيه أن أسهلها من خلال حوار بين أخ وأخته، كي لا ينفر منها الطالب المغترب.
عام 1985، طبعت الوزارة "قاموسي" الذي يحتوي على مئات الصور التي رسمها الرسام "والتر لاموس"، مبدع صور معظم كتبي، وكانت كل صورة تحمل اسمها باللغتين العربية والانكليزية، وأعيدت طباعته عام 1987.
عام 1990، وافقت الوزارة على طباعة "القراءة الحديثة"، بالاضافة الى "دفتري السادس" الذي يحتوي على تمارين للصف السادس.
عام 1991، طبعت الوزارة "دروب القراءة" الموجه لطلاب الصف الرابع ابتدائي.
وفي العام 1992، طبعت الوزارة "نعم أنا أقرأ العربية" الموجه لطلاب الصف الثالث ابتدائي.
ولقد أوقفتني عبارة كتبها الاستاذ الذي راجع هذا الكتاب، فلقد قال: نصوص هذا الكتاب يغلب عليها الطابع الشعري، كونها مشحونة بالصور الشعرية الجميلة، وأتمنى أن يفهمها أطفال الصف الثالث.
عام 1996، طبعت الوزارة "تعالوا نكتب" وهو كناية عن كتاب تمارين للصف الخامس ابتدائي.
عام 1997، رفضت الوزارة طباعة كتاب "قراءتي الثانية" الموجه لطلاب الصف الثاني ابتدائي، والسبب، كما ذكره الأستاذ الجامعي الذي أشرف على مراجعته، انه يحتوي على عبارة "حذاء أحمر"، وأصرّ، وللأسف، على أن لا أحذية حمراء في الاسواق، فما كان مني إلا أن ذهبت الى محل لبيع الأحذية الولادية، والتقطت عدة صور للأحذية الحمراء المعروضة في الواجهة، وأرسلتها للوزارة، مع رسالة كتبت فيها: قولوا لهذا الاستاذ الجامعي أن يتزوج، كي يرزق بأطفال، يشتري لهم مثل هذه الأحذية الحمراء الجميلة التي ترونها في الصور. وللحال وافقت الوزارة على طباعة الكتاب.
وفي العام 1998، طبعت الوزارة "كتابي الأول" الموجه لطلاب الصف الاول ابتدائي.
وبهذا، أكون قد أكملت، بعونه تعالى، جميع الكتب التي تسد حاجات الطلاب التعليمية في جميع الصفوف الابتدائية.
وبما أن الحكومة الاسترالية بدأت تهتم بنشر اللغة العربية، وتدريسها في جميع مدارسها، ازداد الطلب على كتبي، فطلبت من إدارة المعهد شراء مطبعة صغيرة، أضعها في مكتبي الذي انتقلت اليه عام 1995، بعد الانتهاء من بناء القسم المختص بالصفوف التي أشرف عليها: السادسة، والخامسة، والرابعة.
وبدأت بطباعة الكتب في مكتبي، وبيعها للمعلمات والمعلمين في المدارس الحكومية، والمال يعود طبعاً للراهبات، ويشهد الله انني لم أتقاضَ دولاراً واحداً من هذه الكتب. كل همي كان نشر المعرفة ومساعدة الطلاب ودعم الدير مادياً.
**
رائد المسرح الطفولي
منذ الاحتكاك الاول مع فلذات أكبادنا المغتربين، أدركت أن من المستحيل إدخال اللغة العربية الفصحى الى عقولهم، وعقولهم لا تحتوي إلا على بعض المفردات العامية مثل: ماما وبابا وستي وجدي.
فكيف لي أن أعلمهم لغة بات يجهل قواعدها معظم سكان الدول العربية، لا بل استبدلوها باللغة الانكليزية لسهولتها، وسرعة انتشارها عالمياً.
إذن، ما العمل؟ وبعد تفكير طويل وجدت أن لا خلاص لي من هذه المشكلة إلا بالمسرح، فالطفل الذي يتكلم بلسان أمه، سيفهم، ولو بصعوبة، مفردات اللغة العربية الفصحى.
عام 1987، قررت أن أدخل بمغامرة قد لا تنتهي على خير، خاصة وأنني سأشرك بها أكثر من 300 تلميذ وتلميذة، تتراوح أعمارهم بين 6 و12 سنة، فكتبت وأخرجت مسرحية "فصول من الحرب اللبنانية" التي نجحت نجاحاً باهراً، لا بل أذهلت النقاد للسرعة التي مر بها الاطفال على المسرح، وكأنهم ممثلون محترفون.
واليكم ما كتبه الاستاذ بطرس عنداري في جريدته "النهار، العدد 547، 9 تموز 1987" تحت عنوان: شربل بعيني المسرحي الناجح مع الأطفال:
قدمت مدرسة راهبات العائلة المقدّسة على مسرح قاعة كنيسة سيدة لبنان، مسرحيّة بعنوان "فصول من الحرب اللبنانية"، أعدها وكتبها وأخرجها الشاعر شربل بعيني.
وقد شارك بالتمثيل حوالي 300 طالب وطالبة، وهذا حدث هام بحد ذاته، ولوحظ ازدحام القاعة الكبرى بالحضور، الذي زاد عن الألف نسمة.
جاءت المسرحية بشكل لوحات مختلفة، تحكي براءة الطفولة والمظالم التي لحقت بأطفال لبنان الأبرياء، وكيف أدت الأحداث الى الانحرافات والفوضى والعنف.
وتخلل اللوحات المسرحية الحية سهام نقد اجتماعي، باسلوب أدبي، مع التزام جميع الأدوار والعروض بلبنان الشعب والوطن الهادىء المحب للسلام.
ولم ينسَ البعيني أن يوجه المجموعة الكبرى من الطلاب والطالبات نحو هدف توحيدي لبنانياً، يرفض منطق الطوائف والعشائر والمناطق.
ولوحظ أن المسرحية التي استغرقت ساعتين، أخذت جهوداً كبيرة لإعدادها وتنفيذها، كما أن الملابس المختلفة للأطفال كانت خاصة بالمسرحية، وهي باهظة التكاليف، وتستغرق الكثير من الوقت لتجهيزها.
كما أدخلت هذه المسرحية العفوية الفرح إلى قلوب الأطفال، ونقلتهم إلى أجواء وطنهم الأم، كما أفرحت وأثارت إعجاب جميع الحضور.
ولا بد من الاشارة الى قوة شخصيات بعض الطلاب والطالبات خلال تأدية أدوارهم، ومن الضروري تشجيع بعض هذه العناصر باتجاه العمل المسرحي، الذي ما زال بدائياً في جاليتنا.
مبروك لراهبات العائلة ولشربل بعيني على هذا النجاح المفرح.
أجل، هذا النجاح، دفعني عام 1988، لكتابة وإخراج مسرحية جديدة بعنوان "ألو أستراليا"، وقد نجحت أيضاً، والحمد لله، مثل سابقتها، وإليكم بعض ما كتبه الاستاذ عفيف نقفور في جريدة "التلغراف ـ العدد 1787 ـ 8/7/1988":
برعاية قنصل لبنان العام الدكتور جيلبير عون، وحضور رئيسة المدرسة الأخت كونستانس باشا، ورئيس دير مار شربل الأب انطوان طعمة، وعدد كبير من الرهبان والراهبات، وجمهور غفير من الأهالي، قدّم تلامذة مدرسة سيدة لبنان مسرحية "ألو.. أستراليا".
المسرحية من تأليف الشاعر شربل بعيني، تحكي بالحركة والكلمة قصة المهاجر اللبناني، وقد نجح الأطفال في اداء الأدوار وتقمص الشخصيات، وقد جاء هذا العمل صورة مصغرة تشهد على تعب الراهبات والمعلمات والمعلمين في اعداد النشء اللبناني خير اعداد، والعمل على زرع العلم والذوق والتهذيب والروح الوطنية في نفوس الاجيال الصاعدة.
العمل المسرحي كان ناجحاً، والحفلة كانت قمّة في الترتيب والذوق الرفيع، وهنا لا بد من كلمة شكر نرفها الى الأخت الرئيسة، والأخوات الراهبات والهيئة التعليمية، على هذه العناية الفائقة بفلذات أكبادنا، وعلى التربية الوطنية الصحيحة، التي يزرعونها في نفوسهم، وعلى رسالة العطاء الفكري التي ينمونها في نفوس الأجيال اللبنانية الصاعدة في هذه البلاد.
بعد نجاح مسرحيتين على التوالي، أصبحت أكثر خبرة مع الاطفال، لا بل أصبح الاطفال يطالبونني بمسرحية جديدة، خاصة وقد بدأوا يتحدثون مع بعضهم البعض في الملعب باللهجة اللبنانية.
أجل لقد حطمت حاجز الخوف عندهم، بعد أن أجبرتهم على حفظ سيناريو المسرحية بأكملها، وكانوا يتشاوفون بحفظها وإلقائها على مسمع بعضهم البعض، وما أن يحين موعد العرض، حتى يكون الجميع على أهبة الاستعداد، فإن مرض أحدهم، هناك من ينوب عنه ويمثل دوره.
عام 1989، أطلت مسرحية "الطربوش" فارتفع عدد الممثلين من 300 الى 600 طفل، أي الى جيش كامل من الاطفال، وقد نجحت في تسييرهم على المسرح بسرعة مذهلة، أدهشت الجمهور. وإليكم بعض ما كتب الاستاذ انطونيوس بو رزق في جريدة "صدى لبنان، العدد 677، 19/12/1989":
مسرحية "الطربوش" تعتبر انجازاً مسرحياً هاماً في بلاد المغترب عامة والأسترالي بصورة خاصة، وذلك للأسباب التالية:
ـ ضخامة عدد الممثلين والممثلات الذي تجاوز الـ 600 بغض النظر عن الدور الهامشي لغالبية التلاميذ، حيث اقتصر في نهاية المسرحية على الظهور وحمل الأعلام واللافتات.
ـ العمر: فكل المشتركين في التمثيل هم من الصفوف الابتدائية.
ـ المولد والنشأة: ان غالبية التلاميذ استراليو المولد والنشأة، فإذا ما نظرنا الى الصوت والنطق والاداء ندرك فضل الاهل والمدرسة في المحافظة على اللغة اللبنانية، وتنميتها لدى أبناء هذا الجيل.
ـ الرقصات والدبكات: وهي من تصميم التلامذة انفسهم، وقد تميّزت بانسجام مع الموسيقى من جهة، وبانسجامها بين أعضاء فرقة الدبكة من جهة ثانية.
وأخيراً، لا بد لنا من أن نشكر كاتب المسرحية ومخرجها الشاعر شربل بعيني، الذي عمل من مسرح سيدة لبنان تقليداً سنوياً ينتظره الجميع بفارع صبر كل عام، والذي ساهم ويساهم في انماء الحس الفني لدى التلاميذ، الذين من المؤهل ان يكون لهم شأن هام في عالم الفن والرقص والتمثيل.
بعد ثلاث مسرحيات ناجحة، قررت أن أرفع السقف المسرحي قليلاً، فكتبت وأخرجت عام 1990 مسرحية "ضيعة الأشباح"، التي ما أن شاهدها الفنان دريد لحام من خلال الفيديو، حتى قال:
ـ أتحدى جميع وزارات التعليم في الوطن العربي أن تأتي بمثلها.
كان هذا يوم زار المدرسة برفقة الممثلة نجوى عاصي، فسأل الراهبات عن النشاطات الفنية في المعهد، فما كان من الأخت مادلين بو رجيلي، إلا أن عرضت فيديو المسرحية على شاشة التلفاز، فتنهد وقال:
ـ في أحد أفلامي أدخلت ستة أو سبعة أطفال للتمثيل، فدوّخوا رأسي، وها أنا أرى مئات الاطفال يتراكضون على المسرح بطريقة مدهشة، يتكلمون، يغنون ويرقصون كالمحترفين تماماً.
عام 1991 انتجت مسرحية "هنود من لبنان"، ولن أتكلّم عنها كي لا أطيل. وفي عام 1993، أبدع الأطفال في مسرحية "يا عيب الشوم"، خاصة عندما بال أحدهم، أي أفرغ مثانته، على طاولة الشرف، وسط تصفيق حاد من الجمهور.
وإليكم بعض ما كتبه الاستاذ انطونيوس بو رزق في جريدة "العالم العربي، العدد 30 ـ 25/6/1993":
متى افتقد المجتمع المسرح، افتقد الرقيب والموجه والناقد، وكلما كان المسرح الصق بالواقع المعيوش، كان أعلق بالنفس والقلب والضمير.
ومن الأعمال المسرحية الضخمة التي شهدتها الجالية هذا العام، كانت مسرحية "يا عيب الشوم"، التي كتبها وأخرجها الشاعر شربل بعيني، واشترك في تمثيلها حوالي ثلاث مئة تلميذ وتلميذة من الصفوف الابتدائية في مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات في هاريس بارك.
والمسرحية، التي تمّ عرضها مساء الجمعة الماضي في 18 حزيران على مسرح قاعة كنيسة سيدة لبنان، وحضرها ما يزيد على الألف شخص، كانت، بحق، بمثابة منبه للجالية على الوضع المأسوي والحالة المزرية التي تعيشها.
مسرحية "يا عيب الشوم"، تعد بحق احدى الأعمال المسرحية الصميمة، حيث خاضت غمار مشاكل لم يتطرق احد اليها من قبل، إما عن عدم قدرة والمام بالمسرح، وإما عن عدم جرأة وشجاعة.
"يا عيب الشوم" مسرحية سلطت الأضواء على مجتمعنا لتكشف معايبه ومساوئه والمخاطر التي تنتظره إن هو لم يعد الى نفسه وجذوره وعاداته وتقاليده.
لقد صوّرت حالة الانحلال التي أصابت العائلة اللبنانية خاصة، والعربية عامة، حيث بدأ ينفرط عقدها شيئاً فشيئاً اثر ابتعادها تدريجياً عن الأخلاقيات التي تحدرت منها.. صورت كيف ان الزوج يصرف ماله في سباق الخيل، وتحاول الزوجة اقناعه بالعدول عن ذلك، ولما لم تفلح في ذلك، بدل ان تحنو على اولادها، اتخذت منحى عكسياً فراحت ترتاد الملاهي الليلية، وتبدد الاموال على "البوكار ماشين" وهكذا اصبح الاولاد وحيدين في البيت، يتهددهم شبح البرد والخوف والظلام، ومن ثم زاغ الاولاد عن الطريق الحق، فارتمت الابنة الكبيرة في احضان البغي والخلاعة في "الكينغ كروس"، ولكن في نهاية المسرحية تعود العائلة للالتقاء من جديد.
كما نجحت المسرحية في اعطاء صورة مضحكة ومبكية في آن عن الغني الذي جنى ماله بطرق غير مشروعة، وكيف ان وصيته كانت بعد مماته بأن يزوّد نعشه بكل وسائل الراحة والترفيه كالتلفاز والتلفون ومكيف الهواء.
ولم ينجُ الادباء والشعراء والمغنون من النقد اللاذع حيث اصبح الادب والشعر والفن مهنة للكسب المادي، فالمغني يسرق اغانيه وينكرها على صاحبها، والشاعر يسرق شعره، وما يسمى بالأديب يهاجم سائر الادباء، ويدعي بانه يستطيع ان يقزّمهم ويمسح بهم الأرض.
وكذلك كان للصحافة نصيبها من النقد، حيث ابتعدت عن رسالتها، واصبحت صحافة المناسبات الاجتماعية والماديات لا أكثر ولا أقل.
وقد كانت للجمعيات والتجمعات حصتهم من النقد، فأظهرتهم المسرحية على حقيقتهم، كيف ان كل جمعية انقسمت على نفسها واصبحت جمعيتين او اكثر، واصبحت المراكز والمناصب في خدمة الاشخاص بدل ان يكون العكس.
غير أن المشهد الذي استطاع ان يخطف الاضواء كان طاولة الشرف، التي تعبّر، حق تعبير، عن مرض حب الوجاهة والمظاهر الذي ضرب الجالية، فكل شخص يريد ان يكون مكانه على طاولة الشرف، وشرعت هذه الطاولة تطول وتطول حتى "احتلت" القاعة كلها.
مهما تكلّمنا عن هذا العمل المسرحي العملاق لا يمكننا ان نفيه حقّه، وكل ما نستطيع قوله ان "يا عيب الشوم" نجحت الى أبعد حدود النجاح.
والجدير بالذكر في هذه الكلمة الموجزة أن هذا العمل المسرحي هو السادس من نوعه من تأليف واخراج الشاعر شربل بعيني، وتمثيل تلاميذ راهبات العائلة المقدسة المارونيات.
فهنيئاً للجالية براهبات سيدة لبنان راعيات صالحات يقدن القطيع الى برّ الأمان.
وهنيئاً للجالية بهكذا تلاميذ براعم ذكية تتفتّح في هذا المقلب من الأرض.
وهنيئاً للشاعر شربل بعيني برائعته هذه، والى مزيد من النجاحات، والف مبروك.
مسرحية "ألله بيدبّر" غردت خارج السرب، فلقد كتبتها وأخرجتها عام 1995، لتعرض على مسرح مدرسة مار مارون في منطقة "دلويشهيل" بمناسبة مرور 50 سنة على وجود راهبات العائلة المقدسة المارونيات في أستراليا.
عام 1996، عادت مسرحيتي الجديدة "المدرسة" الى المنبع، أي الى معهد سيدة لبنان، والجدير بالذكر أن الأخت إيرين بو غصن قد شاركت الاطفال بالتمثيل، إيماناً منها بالفائدة التربوية التي يقدمها المسرح للأطفال.
عام 1997 كادت تتوقف مسرحية "شارع اللبنانيين" قبل عرضها بيومين، فلقد انتشر داء الحصبة بين الاطفال، فتغيب ليلة العرض أكثر من نصف الممثلين والممثلات الصغار، ومع ذلك عرضت المسرحية ولاقت نجاحاً ملفتاً. أما كيف حصل ذلك، فالسر يكمن بطريقة حفظ جميع الأطفال لكامل حوارات المسرحية، فإذا غاب أحدهم هناك من ينوب عنه.
عام 1998، عرضنا مسرحية "جارنا أبو ردجيني" وقد استعنا بفرقة استعراضية من الشعب الاصلي، لتعليم الاطفال كيف يؤدون الرقصات الأبوردجينية الشعبية في المسرحية.
عام 2000، عرضنا مسرحية "طلوا المغتربين"، وعام 2002، عرضت مسرحية "عصابات وبس"، واسمحوا لي أن لا أتكلم عنهما، ولكني أدلكم على كتاب الدكتور علي بزي الالكتروني "شربل بعيني رائد المسرح الطفولي" لتعرفوا كل ما كتب عن مسرحياتي.
عام 2004، اكتمل بناء مسرح مدرسة سيدة لبنان، فقررت أن أباركه بمسرحية دينية بعنوان "يا مار شربل"، ولكن الافتتاح الرسمي سيتم بعد أشهر، فطلبت من الاخت إيرين بو غصن، أن أسبق الافتتاح الرسمي، بافتتاح فني، فوافقت.
آخر مسرحياتي كانت "الكنز المسحور" عام 2005، بعدها بدأت أشعر أن رحلتي مع مسرح الاطفال في معهد سيدة لبنان قد انتهت، والتشجيع الذي كنت ألاقيه قد تلاشى، فالادارة تغيرت، وتغيّر معها كل شيء.
**
إعلام مهجري
عام 1974، قررت أن أصدر جريدة مجانية تحمل اسم شركتي للتسجيلات الغنائية "صوت الأرز"، ولكنها لم تعش طويلاً، إذ ماتت بعد العدد الأول مباشرة.
يومها كنت أستعمل الدكتيلو لكتابة موادها، تماماً كباقي الصحف العربية الصادرة يومذاك، وكان ينطبق علينا جميعاً كإعلاميين مبدأ "خزق ولزق"، أي كنا ننتظر وصول صحيفة من لبنان كي يلعب بأخبارها المقص حسب رغبتنا. وأعتقد، لا بل أجزم، أن هذه الطريقة جعلتني أنفر من إكمال إصدار الجريدة.
وفي تشرين الثاني من عام 1995، أصدرت مجلة "ليلى" الورقية، فعاشت أكثر من أربع سنوات، وتوقفت وهي في أوج عزها، جراء أزمة نفسية تعرّضت لها، يوم وفاة والدتي في سيارتي، بينما كنا عائدين من زيارة عائلية عام 1999.
والمثل القائل "وراء كل رجل عظيم امرأة" ينطبق تماما على والدتي "بترونله"، فلقد كانت الداعم الأكبر في رحلتي مع الكلمة، لا بل كانت تطالبني أن لا أتوقف عن العطاء، لأني خلقت له.
ولكني توقفت ساعة وفاتها، لا بل انهارت كل أحلامي وآمالي وتطلعاتي، فانزويت لمدة طويلة في غرفتي، وابتعدت عن المشاركات الأدبية والاجتماعية، وأصبح قبرها قبلتي اليومية، إليه أحج وعنده أبكي:
ـ1ـ
سنين صرلك غايبه.. وبعدك قمر
يا ميمتي.. وبعدو رضاكي بمسمعي
دعسة جريكي بعد في إلها أثر
عم إسمعا.. طمعان إنك ترجعي
ـ2ـ
عيد الأمومه طل جايي من السفر
ما عاد عندي عيد، صرت بلا وعي
زرت قبرك تحت زخات المطر
حبيت إخفي دموع حرقت مدمعي
ـ3ـ
تركتي وجع ما كان حاسبلو القدر
بفزع تا قلك شو بني وتتوجعي
من كتر ما خبطت راسي ع الحجر
صار الحجر، يا ميمتي، يبكي معي
وسبب نجاح وانتشار مجلة "ليلى" يعود الى نشرها أخبار أبناء الجاليات العربية في أستراليا أولاً بأول، لا بل كانت صورهم فقط هي التي تزين غلاف المجلة، ولو لم أتعرّض لتلك الحالة النفسية الموجعة، لاستمرت في الصدور حتى يومنا هذا بسبب التفاف أبناء الجالية حولها، كيف لا، وهي منهم وإليهم.
حتى أن الشاعر العملاق نزار قباني بدأ بتشجيع المجلة، التي كانت تصله شهرياً الى لندن، وسمح لي بنشر آخر قصائده دون الرجوع إليه، وعندما توفاه الله، في تموز 1988، أصدرت العدد 33 بعنوان "ويذهب نزار قباني"، وقد رثاه الكبار من كل الدول، وكان هذا العدد الخاص برحيله تاريخياً بكل ما للكلمة من معنى.
وفي إحدى اتصالاتي، طلبت من الدكتور عصام حداد أن يسمح لي بتوزيع جائزة شربل بعيني في أستراليا، فوافق مشكوراً، فما كان مني إلا أن وزعت قسائم الترشيح للجائزة على القراء، وطلبت منهم أن يختاروا بأنفسهم الفائزين بها.
عام 1996، وزعت الجائزة في مهرجان شعبي ضخم أقيم في قاعة "الأورين سنتر" في منطقة كامبسي. ولم يتوقف توزيعها حتى يومنا هذا.
أثناء نشر المجلة كنت أسافر كل سنة الى دول مختلفة، علني أجد فيها مراسلاً يزودني بأخبار الجاليات العربية هناك، ولكني لم أوفق أبداً، فقررت أن أكتب المواضيع عن تلك الدول بنفسي، وأنشرها على مراحل، وكأن مراسلاً يزودني بها شهرياً.
بعد توقف المجلة الورقية بأشهر، قررت العودة الى الاعلام، عن طريق الانترنت، فأصدرت "ليلى" الالكترونية. وبعد سنوات قليلة أوقفتها لاسباب خاصة، وبدأت عام 2009 بنشر "الغربة"، التي احتضنت، وما زالت، أشرف وأقوى وأصدق الاقلام من كل الدول العربية والعالمية.
وأعتقد، كما قال الاعلامي بطرس عنداري، انني كنت السبّاق في مجال النشر الالكتروني، إذ سبقت بسنوات العديد من الصحف العربية والاجنبية في أستراليا والعالم العربي.
يكفي انني أدخلت في "الغربة" البث التلفزيوني، فأجريت مئات المقابلات مع شخصيات من الوطن والمهجر. وهذا ما لم يفعله أحد قبلي، إلى أن انتشرت مواقع التواصل الاجتماعي، وضاع الحابل بالنابل، ولم نعد نعرف من هو الاعلامي ومن هو المدسوس على الاعلام.
**
إمارة الشعر
عام 2000، منحني الدكتور جوزيف الحايك، رئيس الجامعة اللبنانية الثقافية ـ قارة أميركا الشمالية، لقب "أمير الأدب"، أتبعه عام 2001 بلقب "أمير الشعراء في بلاد الانتشار"، وأشهد أمام الله وأمامكم انني لا أعرف الدكتور الحايك، ولم ألتقِ به شخصياً، كل ما هنالك انه اطلع على أدبي من خلال الكتب التي وزعتها مجاناً في كل مكان، أو من خلال كتبي الالكترونية، أو مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذان اللقبان أقاما الدنيا ولم يقعداها، وراح البعض يشتمني ويتهمني بشراء اللقب، فانبرى العديد من الشرفاء للدفاع عني، لدرجة أن الشاعر شوقي مسلماني قد خصص غلاف العدد 12 عام 2001 من مجلة "أميرة"، التي كان يشرف عليها، إكراماً للأمير، وسأل العديد من أبناء الجالية عن رأيهم بإمارتي الشعرية، تحت عنوان "أميرة تستفتي حول الامير شربل بعيني"، فاستحسنوا الخطوة التي صدرت بحق أدبنا المهجري، وهذا ما أثار حفيظة صديقي الشاعر موريس عبيد، فراح يتهجم علي في زاويته "حديث العناكب" التي كان يكتبها في جريدة التلغراف.
موريس إنسان أحترم شجاعته كثيراً، لأنه لم يختبىء خلف اسم مستعار، بل جاهر باسمه، عكس العديد من الجبناء الذين هاجموني بأسماء مزيفة، ولذلك توطدت صداقتي معه، ولكن ما حدث قد حدث، وما كتب قد كتب، ولهذا يتوجب عليّ أن أدونه في كتاب "حياتي: من القلم الى الالم"، لأهميته، تصديقاً لعبارة قالها الدكتور رفعت السعيد يوم زار أستراليا:
ـ بإمكانك أن تزوّر أي شيء ما عدا التاريخ، فالتاريخ لا يزوّر.
وكي لا أكون شاهد زور على تاريخ عشته، وتألمت منه كثيراً، أحببت أن أترككم أولاً مع مقالات موريس وتواريخ نشرها، وسأتبعها بردودي عليه أيضاً، وإليكم ما كتب:
السلام لمن اتبع الهدى
عندما تنتقد عملاً شعرياً معيّناً وتكون صديقاً شخصياً لصاحب هذا العمل، لا يعني هذا انك تناصب صديقك العداء، فكل ما ينشر للقارىء سلباً كان أم إيجاباً يصبح ملكاً للقارىء، فمن هذا المنطلق أرى من واجبي أن لا أترك المناسبة تمر دون تعليق لأن الضمير المصلحي لا يرضى ذلك.
ففي إحدى القصائد لشاعر صديق.. وانني أعني هذه الكلمة بما تحتوي من معنى، يقول: يعضّوا البز.. وحكاما بتقلاّ طز. الأمه الحاكمها بهله.. ومن برّا ضروب يا خرّا.. الغربه البزقتنا حكايه.. الحريه فهمناها ساكس.. وساكس الحريه أمراض.. محمد صفّى إسمو ماكس.. تفرنج تا يزوبن فيّاض.. ونجيبه بيبسطها راكس.. الكلب البتركبلو حفاض..
فيا معشر الشعراء والأدباء والكتاب، اتقوا الله، اتقوا الذوق والجمال، اتقوا القارىء، لأن للكلمة حرمة، وللمنطق الشعري حدود، ولصديقي أقول: انني لا أزال على صداقتي ومحبتي لك لكني في ذات الحين أقول: حافظ على مستواك الشعري ولا تنزلق أكثر.. والسلام لمن اتبع الهدى.
التلغراف، العدد 2527، 30/6/1993
**
لننشل قدسية الشعر والأدب من مزابل المتطفلين
من مصائب الصحافة والأدب والشعر في هذا المقلب من الأرض أن هناك عدداً كبيراً من المتطفلين قد عهّروا الصحافة وشرشحوا الشعر وتركوا الأدب بلا أدب.
ففي الصحافة مثلاً، جاء من يتطفّل عليها ويُتَجْرنها إلى أن تحولت من رسالة الى تسوّل.
لقد تمادى البعض واستهتر الى حد حمل كيسه وراح يطرق الأبواب التي يشتم في داخلها ثراء ومالاً ونعمة. والبعض الآخر راح يتمرّغ على أعتاب السفارات طمعاً بالحصول على بعض المال الذي يقابله التمجيد والتقريظ والتبخير والكذب السياسي.
ففي عالم الصحافة اليوم جاء من يشحد ليشرشح كرامة الجميع، وليصورنا بأننا كلنا شحادين ولسنا أصحاب رسالة.
لقد مرّت علينا في الفترة الأخيرة بعض المناسبات والحوادث التي أشعرتنا بأننا غير محترمين، وان من يقابلنا يظننا في خلفية ضميره اننا قوم نلهث وراء القرش، وان حياتنا المادية مرهونة بالشحادة من هذه السفارة او ذلك الثري.
فمنهم من قابلناه وكان متردداً في ان يقدّم لنا فنجان قهوة باسم المبدأ العام للضيافة. فقط ربما لأنه قابل غيرنا من المتطفلين على المهنة وكأن التسوّل لبّ الموضوع.
ومن التسوّل باسم صاحبة الجلالة الى المقالات التقريظية التي تستلهم المنفعة المادية، والتي تجعل من الصرصور جبلاً ومن السارق بطلاً ومن المهرّب رئبالاً.
ومن عالم الصحافة ننتقل الى عالم الأدب حيث جاءنا من الجامعة الثقافية في العالم ـ قارة أميركا الشمالية، رسالة موقعة باسم الرئيس القاري جوزيف الحايك، تقول بأن المجلس القاري في العالم انتخب أخيراً صديقنا شربل بعيني "أمير الأدباء اللبنانيين" في عالم الانتشار للعام ألفين، وتقول الرسالة:
حيث أن الاستاذ شربل بعيني كان ولأكثر من ربع قرن ويبقى سيد الكلمة والقلم في عالم الانتشار.
وحيث أن الاستاذ شربل بعيني قد جنّد حياته وقلمه لتربية الأجيال، وأغنى المكتبة العامة بأدبه ومؤلفاته.
وحيث أن الأستاذ شربل بعيني أصدر أكثر من 25 كتاباً، وارتفع باللغة والأدب والتربيّة والتعليم إلى أعلى مستويات الأبجديّة، وأصبح (قدموس) الثاني في التراث الفكري والثقافي والحضاري الذي أعطاه للعالـم، هذا العطاء الذي أمامه يتضاءل كل عطاء.
وحيث أن الأديب شربل بعيني قد وفّر بعطائه الأدبي والفكري والتربوي ما يوفّر للإنسانيّة أسباب العزّة والكرامة.. فكانت أنشودته (الحرف والكلمة)، وكان الفكر الخلاّق يستوي على عرشه.. وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسّع حدوده إلى أقمار الدنيا، فاغترب عن لبنان إلى أستراليا في العام 1971.
وحيث أن كبير أدباء موطن الأرز الأستاذ شربل بعيني قد فتح صفحات التاريخ، وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى على فـم الأنبياء، الذين أحنوا الجبين أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة.
وحيث أن الأستاذ بعيني قلّده المفكرون والأدباء والشعراء وأسياد التراث الحضاري والفكري، ومنهم الحكومة اللبنانيّة، أكثر من 20 من الأوسمة والميداليّات المذهّبة عربون إجلال وإكبار لمستواه الأدبي الرفيع..
لهذه الأسباب المشرّفة، وهذه المقوّمات الأدبيّة الشامخة، وهذا المستوى الثقافي الرفيع، كان لنا الفخر، كل الفخر، في المجلس القاري للجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، أن ننتخب من بين 41 مرشّحاً من خيرة الأدباء اللبنانيين، الأستاذ شربل بعيني أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار.
جوزيف حايك
الرئيس القاري
الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم
أن تقول الرسالة ان شربل بعيني أصبح "قدموس" الثاني في التراث الفكري والثقافي والحضاري الذي أعطاه للعالم، هذا العطاء الذي أمامه يتضاءل كل عطاء..."
فإلى قدموس الثاني نقول: هذا عيب، وهذا استهتار بأهل الفكر والأدب وهذا جنون يجب أن لا يطرح في مجال الأدب.
والقول "وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسع حدوده الى أقمار الدنيا" فهذا الكلام في رأينا ربما يقال لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمه، وليس لشربل بعيني.
وتضيف الرسالة "وحيث أن كبير أدباء موطن الأرز الأستاذ شربل بعيني قد فتح صفحات التاريخ... وأصبح موسيقى العذارى على فـم الأنبياء" فإلى كبير الأدباء في موطن الأرز نقول: كم أن موطن الأرز أصابه قحط أدبي، وكم خانته مواسم الرؤوس ليكون شربل كبير أدبائه.
وتنتهي الرسالة بالقول ان الاستاذ بعيني يحمل أكثر من 20 من الأوسمة والميداليات المذهبة عربون إجلال وإكبار لمستواه الأدبي الرفيع.
ان هذا الكم الهائل من الأوسمة والميداليات يبرهن لنا ان هذه البضاعة أضحت تباع بالكيلو، وانها لا تقاس إلا بهذا الوزن المادي فقط. فالجوائز والميداليات اليوم أصبحت أرخص من أوراق الشجر لأنها فقدت قيمتها المعنوية، وانها هبطت بمستواها الى ان اصبح اصغر رئيس جمعية يجرّ العتاعيت الى المسرح ليعلّق في أعناقهم أجراساً وعقود خرز.
أما من الناحية الشعرية، هذه المادة المستوحاة من عالم آخر، والتي تعتبر عطاء ربانياً لا صناعة فيه، وهي لغة الروح ونفثات الأحاسيس المرهفة والشعور الانساني، هذه المادة يجب ان لا تلقى بين الدجاج، ولا أن تبعثرها دواجن الشعر فوق المزابل، لأنها لغة مقدسة، ويدنّسها الشاعر غير المقدس اذا ما تعاطاها.
ففي عصر "تفقيس الكتب" مع الاحترام للكتب الرائعة، يبدو جو الشعر مكفهراً، ويبدو ان حابل الشعر قد اختلط بنابله، ويبدو أيضاً ان لا شيء يستطيع ان يحافظ على قدسيته طالما أن دجاج الشعر يبوّل كل يوم على أجنحة نسور الشعراء.
أيها الناس.. يا أصحاب الذوق.. ان القصة تبدو خطيرة للغاية، وقد أصبح من الواجب التصدي لها، لانها اذا ما تمادت أكثر من ذلك سنصبح مجتمعاً بلا شعراء وبدون صحافة رسولة وادباء.
فعيب وعار أن يكون رزقنا الأدبي والشعري داشراً الى هذا الحد.. وعيب أن نورث الأجيال المقبلة ما تبوّله دجاجات المزابل شعراً.. في حين من سبقنا من أدباء وشعراء في المهاجر كانوا قد أغنوا العالم بعطاءات تنحني شعوب الارض أمام روعتها.
التلغراف، العدد 3647، 17/11/2000
**
شربولي يا همي الوحيد.. سلمت لمراديخ العرب
..وفي سياق العراك الفكري والمقارعة بالكلمات يعود صديقي شربل ليفتح الدفاتر العتيقة، وليصور نفسه هذه المرة بأنه الهم والكابوس الذي يقض مضجعي، وهو جاء ليكلمنا بلغة "السيّد" ويطلب الغفران لنا، لأننا لا ندري ما نفعل.
فليتأكد "الأمير" الجديد انني لا أنام ملء جفوني قبل أن أعيد بعض الناس الى أحجامهم الحقيقية، خاصة أولئك الذي يقتلهم الغرور، والذين يعشقون الألقاب والميداليات القصديرية، أو يستغلّون صداقاتهم الشخصية لتسخيرها في مجال الشعر والأدب.
وأن يعود "همي الوحيد" "شربولي" الى التحريض العشائري في زج أبناء بلدته الذين نكنّ لهم كل احترام.. فهذه في شريعة الأدب غير لائقة، وليسمح لي صديقي الذي حرّض بعض النسوة لشتمي عبر الهاتف ان أؤكد له ان التي أحلّت "سفك دمي عبر الهاتف" على طريقة سلمان رشدي أضحكتني حتى الانفجار.
وعن لماذا لم انشر بعض الكتب "يا سمو الأمير" فلأني أعتقد أن من هم امثالك المعروفين "بتفقيس الكتب" جعلوني العن الذين شرشحوا قدسية الكلمة، وعهّروا الادب الذي كنا ولا نزال نتوق اليه، فأبعدت نفسي عن الخوض في مواسم الورق التي تضجرت منها رفوف المكتبات.. وإني اذا كتبت الشعر اكتبه فقط لأرضي نفسي، وليس لأتسلّق بواسطته سلالم الشهرة، أو لأستجدي ألقاباً فضفاضة.
وعن قصائدي التي تقول انها لم تينع بعد.. نعم اني أقرّ واعترف بأنها لم تصل حتى الآن الى مستوى شعرك القائل: "ومن برّا ضروب يا خرّا" "ونجيبه بيبسطها راكس" "وجورتها بدّا تبليط". فأنا يا "شربولي" العزيز لست بلاّط الشعر لأبلّط بحر نجيبة، ولست أميراً مرحاضياً لأقول: "ومن برّا ضروب يا خرّا".
وعن جوائز شربل بعيني "التي زيّنت صدور العديد من أبناء الجالية وقد جنّ جنون موريس الذي لم تأتِ إليه".
حقاً إنها خسارة تاريخية كبيرة وفرصة لا تعوّض عندما تفوتني جائزة شربل نوبل بعيني، فإن نوبل هذا "الديّوس" قد تجاسر منذ زمن وتسطّى على حقوق الأمير المنتظر الذي جاء "ليطرطش" ميدالياته القصديرية شمالاً ويميناً.
ويعود "همي الوحيد" ليقول للذين طالبوه بالدفاع عن نفسه عندما تهجّمت عليه بأنه لم يفكّر بمهاجمتي يوماً، لأنني ما كتبته عنه عام 1986 في مقدمة كتاب "رباعيات" لم يكتبه أحد من قبل.
نعم يا شربل.. هذا صحيح.. وهذا هو الدليل الواضح على أن لا عداوة شخصية بيني وبينك، فلذلك عندما تفلح بأمر أكون أول السباقين الى مديحك، لكنك عندما لا تفلح في أمر أكون أول الناقدين لك والمعترضين عليك. فإذا ما قلت بانك غزير العطاء، فهذا صحيح.. واذا ما قلت بانك احد الشعراء الذين شاءهم الله ان ينقلوا روعة كونهم الصغير الذي ترعرعوا وعاشوا في صميمه، فهذا صحيح. لكن أن أوافق صديقك السيد جوزيف حايك بأنك كبير ادباء موطن الارز وانك قدموس الثاني وامير الادباء اللبنانيين في عالم الانتشار للعام 2000 فهذا يعني انني قد اصبت بجنون البقر الذي ضرب البلدان الاوروبية في وقت سابق.
فيا عزيزي شربل.. لقد كنت اتمنى عليك بداية ان تحصل على "صك الامارة" من الجامعة الثقافية في أستراليا، وبالتحديد من أولئك الناس الذين عايشوك وعرفوك من ألفك إلى يائك، لا أن تترحّل الى أصدقاء لك في مجاهل الأرض ليبايعوك في أمر أنت لست بمستواه. إن مصير الأدب في لبنان وعالم الانتشار ليس بهذه الهشاشة "يا همّي الوحيد" ليكون طوّاعاً لاستعلائك.
انك في رأيي، ينبغي أن تولد من جديد أكثر من ألف مرة لتستطيع أم تكون تلميذاً عند قدموس. فأنت يا شربل تستطيع أن توهم بعض المحبّين، وبعض الذين يجهلون الأدب، لكنك لا تستطيع أن توهم الذي كان قد صرف نهاراً كاملاً في منزله، وكنت إلى جانبه، ليصحح لك أوزان شعرك التي كانت تختلف وزناً بين الصدر والعجز في أغلب قصائدك.
وإذا كنت تعتقد يا شربل أن مديحي لك في السابق ونقدي لك اليوم هو انفصام في شخصيتي الأدبية، فأنا أعترف أنني كنت قد ارتكبت خطأ كبيراً في ذلك الوقت، كانت قد أكّدته السنوات المقبلة فيما بعد، عندما هبطت حرارة شعرك كهبوط الثلج في الصحراء.
أما عن الاوسمة والجوائز والاجراس والخرز ودواجن الشعر، فهذه يا شربل قصة طويلة طويلة وأنت الأدرى بها لأنك أتقنت "تفقيس الكتب" التي تبخّرت في ذاكرة الأدب والناس، وظلّت مطاراً للغبار في المكتبات.
وعندما تتهمني يا شربل بأنني قلت في كتاب رباعيات "ينام شربل وفي عينه قافية ويفيق وفي بؤبؤ الثانية رباعية" هذا لا يعني انني لا استطيع ان أقول لك اليوم " ينام شربل وفي عينه لقب أجوف، ويفيق وعينه على زوايا الأرض حيث يلمع معدن يحسبه ميدالية".
ولأنك تصرّ يا شربل في ختام عجالتك الرد على انك أمير الأدب "وهذا ما ستفتخر به الجالية اللبنانية في أستراليا، ونحن نعارضك الرأي، فليس علينا هنا إلا استفتاء الشعراء والأدباء بصدد ذلك، شرط أن لا تتدخّل الجحافل التي تحيط بك وتهدد بسفك دم "سلمان رشدي" الجديد وغيره من الأدباء والشعراء.
التلغراف، العدد 3649، 21/11/2000
**
حفاظاً على حق القارىء.. انتهى الموضوع
دأبت بعض الصحف على الاسترسال في الهجاء الشخصي حول موضوع "أمير الأدباء في عالم الانتشار وكبير أدباء موطن الأرز، وقدموس الثاني" شربل نوبل بعيني، حيث دلق بعضهم ما خزنه حقده الدفين منذ سنوات.
ولأن الموضوع عندنا يتلخص برفض تلك "الإمارة المزورة" والطوسنة المجنونة، التي لا يستطيع أن يتقبلها إنسان عاقل، رأينا أن نقفل من جانبنا باب المهاترات الشخصية، التي لا تمت للموضوع الأساسي بأي صلة، وحفاظاً على حق القارىء بقراءة مواضيع بعيدة عن الأمور الشخصية.
ان الموضوع في رأينا أصبح معروفاً لدى كل الناس، ولا لزوم لإشغالهم "بالمسيرة السافلة" التي يصر البعض على إكمالها بدون نتيجة.
عجيب.. ان ردود الفعل على الموضوع كانت فقط من الأهل والأقارب والأصحاب.. الذين يلدغون في ضمائرهم، ومن الذين لهم حسابات خاصة يريدون تصفيتها، ومن الذين يريدون حشر أنوفهم في كل موضوع من أجل تسويق الذات، ومن الذين يستكتبون غيرهم للرد والضرب بينهم.
وبالمناسبة نؤكد اننا سنظل نحارب هذا الدجل اللا أدبي واللا أخلاقي حتى تنطفىء الشمس.
التلغراف، العدد 3651، 27/7/2000
**
موريس عبيد الذي كتب ما ذكرت سابقاً، هو ذاته الذي كتب مقدمة الطبعة الثانية من ديوان "رباعيات" عام 1986، وامتدح بها شربل بعيني كما لم يمتدحه أحد من قبل، وأعتقد، لا بل أجزم، أنه لو تذكر هذه المقدمة وما جاء فيها، لفكّر ألف مرة قبل أن يحيك خيوط حديث عناكبه، وإليكم ما كتب:
الشعر نفحة علوية تعبّر عن خلجات الترابيين في الفرح والاغتباط، في الوجع والألم.
والشاعر هو ذلك المخلوق الغريب عن دنياه، يتميّز عن آلة التلفزة بأنه يلتقط الصور الجامدة، فيعجنها بالدمع والسهر والشوق، مازجاً بين الواقع والخيال، وينقلها عبر نبضات قلبه، وارتعاشات روحه، إلى أبناء جنسه، أولئك الذين يثورون على الرتابة في الحياة، ويودونها متحركة.
فشربل بعيني هذا الشاعر الانسان الغزير العطاء المرهف الحس، شاءه الله ان يكون المترجم الامين والناقل الصادق روعة كونه الصغير الى المجتمع الذي ترعرع وعاش في صميمه.
في وطن الأرز تتبعنا شربل، فرأيناه يترع القطر فيمتلك الدائرة.
كان يلهث، فتتفجّر البراكين، ويتأوّه، فتسمع للريح عويلاً.
يحب.. فتختلط الملائك بالشياطين، وإذا اكتأب، تساقطت مواسم الأعياد كأوراق أيلول، وتلوَّت السواقي وجعاً وأنيناً.
وفي غربته، تراه يمضغ شجونه، ويأكل ذاته، وفي أعماقه يتعالى صراخ الشوق الى الأهل، الى الربوع، الى الوطن الحبيب.
شربل لا يخاف الكلمة، بل يعجنها، ويصقلها، لتأتي طواعة بين يديه، فيسخرها لغايته، التي هي غاية الشعر في النتيجة.
في غربته، عرفت شربل يسهر القافية، ويمج الليل، ويغلي على نار الشوق الفجر الرصاصي، ليسكبه في قالب الوزن، فيتحوّل الى قصيدة.
قارورة الشعر الاغترابي تبقى ناقصة دون شعر شربل، دمعات الرحيل لا تحكي، وغصة الفراق لا تسمع طقطقتها من حلق.
رباعياته تمتاز بالجرأة والقفز فوق المعقول. تتناول جوانب الحياة بعنفوان وكبر. تنقد، فتأتي بالصالح، وتطرح الطالح جانباً.
ينام شربل وفي عينيه قافية، ويفيق وفي بؤبؤ الثانية رباعية، إنه المتأرّق دائماً وأبداً، ينام ولا يرتاح، إنه ابن الشعر، إنه إبن الأرق.
**
والآن، أترككم مع مقالات دافعت فيها عن نفسي، ونشرت في العديد من الصحف المهجرية:
أولاً: إنفصام الشخصيّة الأدبيّة عند موريس عبيد
ـ1ـ
أولا، أحبّ أن أؤكد للقرّاء أنني ما هاجمت أحداً قط طوال حياتي الأدبية، وأنني تجاهلت الكثير من التجريح، ولسان حالي يردّد: (اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون).
ولكن، وبعد أن أصبحت (همّاً وكابوساً) لبعض الذين يدّعون صداقتي قبيل شتمي، فلقد وجدت ان من حقّي أن أردّ عليهم، ولو مجبراً، حتى أنقذهم من همهم (الشربلي)، وأزيح عنهم كوابيس ليلهم الإغترابي الطويل. وإليكم الدليل:
ـ2ـ
عام 1993، وفي حديث عناكبه، كتب (الصديق) موريس عبيد ما يلي: "أحد الكتبجيّة وضع كتاباً للطلاّب المبتدئين، مضمونه (درج عرج)، فقدمه بإهداء إلى زوجته، يحاشر إهداءات جبران خليل جبران إلى ماري هاسكل، وانبرى معجبون بكاتب آخر، فطالبوه بأن يتحوّل بيته إلى متحف على غرار متحف جبران في بشري.. رحم اللـه الحياء.. رحم اللـه جبران).
وكما يعلم الجميع، فكلمات موريس عبيد هذه، الصديقة جداً جداً، تغمز من قناة أبناء مجدليا المقيمين والمغتربين، وتتهمهم بقلّة الحياء!!.. لا لشيء، سوى لأن مختار بلدتهم السيّد الياس ناصيف أبي خطّار، قد أعلن في الثلاثين من حزيران 1989، وفي يوم محمد زهير الباشا بالذات، أن "التفكير يدور حول وضع اليد العامة على البيت الذي ولد فيه شربل بعيني، ليتحوّل فيما بعد إلى متحف يضمّ أول ما يضمّ نتاجكم أنتم يا أدباءنا المهجريين".
وبما أن "الصديق" موريس عبيد لـم ينشر كتاباً واحداً، كي تضمّه مجدليا إلى نتاج أدبائنا المهجريين، فقد ثارت ثورته وكتب ما كتب. ولست أدري لماذا لـم ينشر هذا "العبيدي" قصائده في كتاب، نقدر أن نرجع إليه وإلى عبقريته الأدبيّة، كلما تهجّم علينا وعلى (تفقيس الكتب) في جاليتنا. وصدقوني أن المسألة ليست مسألة بخل، بل أعتقد جازماً أن قصائده لـم تينع بعد.
ـ3ـ
وفي العام ذاته، أي 1993، عاد (الصديق) موريس عبيد إلى مهاجمة "همّه الشربلي"، بأسلوب الذئب الذي التهم جدّة الفتاة الصغيرة ذات الثوب الأحمر، وقرّر أن يلتهمها ولو انشقت الارض وبلعت من فيها. فكتب في (حديث عناكبه) ما يلي: "عندما تنقد عملاً شعرياً معيّناً وتكون صديقاً شخصياً لصاحب هذا العمل، لا يعني هذا أنك تناصب صديقك العداء، فكل ما ينشر للقارىء سلباً كان أم إيجاباً يصبح ملكاً للقارىء. فمن هذا المنطلق أرى من واجبي أن لا أترك المناسبة تمر دون تعليق لأن الضمير المصلحي لا يرضى بذلك".
إلى هنا، بإمكاننا أن نعتبر هذا الكلام منزلاً، نظراً لمحبّته وتسامحه وقوة سبكه وقدسيّة معانيه. ولكننا إذا تابعنا القراءة، نجد أن موريس بدأ يتلاعب بكلامه، ويقتطع من قصيدتي الطويلة "قرف" كلمات نابية إذا نشرت لوحدها، وشاعرية إذا بقيت ضمن سياقها الشعري. وكأنه يذكّر المؤمنين بما قاله اللـه تعالى في كتابه، فاقتطع من الآية التي تقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، أول ثلاث كلمات: لا تقربوا الصلاة.. ونشرها مجزوءة لغاية في نفس يعقوب. وإليكم بقيّة كلامه: "ففي إحدى القصائد لشاعر صديق.. وإنني أعني هذه الكلمة بما تحتوي من معنى.. يقول: يعضّوا البز.. وحكّاما بتقلاّ: طزّ.. الأمه الحاكمها بهلي.. ومن برّا ضروب يا خرّا.. (هذا الكلام ليس لي، إنه مثل شعبي معروف).. الغربه البزقتنا حكايه.. الحريه فهمناها ساكس.. وساكس الحريه أمراض.. محمد صفّى إسمو ماكس.. تفرنج تا يزوبن فيّاض.. ونجيبه بيبسطها راكس.. الكلب البتركبلو حفاض".
كل هذا، ولـم يذكر الصديق الصدوق إسم مؤلف القصيدة، تماماً كما فعل في التهجّم الأول.. ولكي يؤجج الشعراء والكتّاب ضدّي، راح يعظهم، كالحجاج بن يوسف، ويصيح من على منبره الوهمي: "فيا معشر الشعراء والأدباء والكتّاب، إتقوا اللـه، إتقوا الذوق والجمال، إتقوا القارىء، لأن للكلمة حرمة وللمنطق الشعري حدود".
بربكم، ألـم تعجبكم خطبة حجاج هذا العصر؟.. ألـم تضرم نار الثورة في أجسادكم الإغترابيّة الطريّة، بلى واللـه، لذلك أرجوكم أن تحفظوها جيّدا، لأنني سأعود إليها عندما أصل إلى تهجمّه علي عام 2000.
وبعد أن انتهى موريس من خطبته العرمرميّة، إلتفت إلى (صديقه) شربل بعيني، دون أن يتنازل ويسمّيه، وراح يقول ودموع محبّته تتفجّع على خدّيه: "ولصديقي أقول: حافظ على مستواك الشعري ولا تنزلق أكثر.. والسلام لمن اتبع الهدى".
قولوا معي بصوت واحد: آمين.
ـ4ـ
ولكي يتمسّك (الصديق) موريس عبيد بصداقتي أكثر فأكثر عام 1997، انتهز فرصة فوز أحد الإعلاميين المهجريين بجائزة شربل بعيني، وكان على عداوة معه، وراح يهاجمه في (حديث عناكبه) ليهزأ في نهاية المقال من شربل بعيني ومن جائزته، التي زيّنت صدور العديد من أبناء الجالية، والظاهر أن موريس انتظرها ولـم تأت إليه، بل أتت إلى من يكره، فسكب جنونه على الورق.
قد تتساءلون، وهذا من حقّكم: لماذا تركته يتمادى في التهجّم عليك، دون أن تحرّك ساكناً؟
في المرّة الأولى، دافع عني أبناء جمعيّة مجدليا في أستراليا في مقال نشرته جريدة التلغراف بعددها الصادر في 14 تموز 1993. وفي المرّة الثانية، دافع عنّي كل الأدباء والشعراء الذين دعاهم للوقوف ضدي. ونشروا مقالاتهم وقصائدهم العديدة في معظم الصحف والمجلات الصادرة في أستراليا. وفي المرّة الثالثة، دافعت عني مقالات الفائزين بجائزة شربل بعيني لعام 1997، وخاصة كلمات ذلك الصحفي الذي طاله التهجم قبل أن يطالني.
هذا يعني أنني لـم أهاجم موريس عبيد، ولـم أفكّر يوماً بمهاجمته، لأن ما كتبه عنّي عام 1986 في مقدّمة كتابي "رباعيات" لـم يكتبه أحد من قبل. ولو تذكّر موريس ما قاله في شربل تلك السنة، لفكّر وفكّر وفكّر قبل أن يكتب حرفاً واحداً ضدّي. فتعالوا معي:
ـ5ـ
عام 2000، وفي مقال شوّه الصفحة الثقافية في جريدة التلغراف، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، ولكن بشكل سافر، لـم يترك للستر غطاء.. ولا للحوار صفاء.. فلقد جن جنون الصديق موريس عبيد عندما وصله نبأ تتويج شربل بعيني أميراً على الأدباء اللبنانيين في عالـم الانتشار اللبناني لعام 2000، من قبل المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم ـ أميركا، وراح يشرّح حيثيّات الجائزة بلؤم زائد، لا يمت إلى أدبنا الاغترابي بصلة، وإليكم ما كتب: "أن تقول الرسالة أن شربل بعيني "أصبح قدموس الثاني في التراث الفكري والثقافي والحضاري الذي أعطاه للعالـم، هذا العطاء الذي أمامه يتضاءل كل عطاء..." فإلى قدموس الثاني نقول: هذا عيب، وهذا استهتار بأهل الفكر والأدب، وهذا جنون يجب أن لا يطرح في مجال الأدب".
وأعتقد أن الاستاذ جوزيف حايك الرئيس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم، لو قرأ ما كتبه عنّي صديقي يومذاك موريس عبيد، لاستبدل عبارته تلك بهذه العبارة الصادقة التي زيّن بها موريس عبيد مقدّمة الطبعة الثانية من ديواني رباعيات الصادر عام 1986، فاقرأوا، بربكم، ما كتب، واحكموا: من مدح شربل بعيني أكثر؟.. يقول موريس: "فشربل بعيني هذا الشاعر الانسان، الغزير العطاء، المرهف الحس، شاءه اللـه أن يكون المترجم الأمين والناقل الصادق، روعة كونه الصغير إلى المجتمع الذي ترعرع وعاش في صميمه".
تعالوا نحلل، من هو الأسمى مقاماً، أقدموس الثاني، كما لقّبني رئيسنا القاري؟ أم ذاك الذي شاءه اللـه أن يكون المترجم الأمين والناقل الصادق روعة كونه الصغير؟.. أعتقد أنكم تعرفون الجواب!
ـ6ـ
ويستهجن موريس عبيد هذا المقطع من رسالة المجلس القاري حول شربل بعيني: "وحدود أرضه قد ضاقت بطاقاته، فراح يوسع حدوده إلى أقمار الدنيا" ويبدأ بفلسفته على ذوقه، فيستنجد بجبران خليل جبران ومخائيل نعيمة، ويقول: "فهذا الكلام، في رأينا، ربما يقال لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وليس لشربل بعيني".. وتناسى أنه قال بشربل بعيني ما لـم يقله المرسلون باللـه تعالى، ولو قرأ أصغر متديّن في العالـم، أياً كان دينه، جملة واحدة من مقدمة الطبعة الثانية لرباعيات التي كتبها موريس ذاته، لكانت كافية لإعدامي وإعدامه، فكيف يحق له أن يتهجّم على الآخرين وقد بزّهم مديحاً وتأليهاً لشربل بعيني؟، وإليكم ما كتب: "في وطن الأرز تتبعنا شربل، فرأيناه يترع القطر فيمتلك الدائرة. كان يلهث فتتفجّر البراكين، ويتأوّه فتسمع للريح عويلاً. يحب فتختلط الملائك بالشياطين، وإذا اكتأب تساقطت مواسم الأعياد كأوراق أيلول، وتلوّت السواقي وجعاً وأنيناً".
إذن، فشربل بعيني، بقلم موريس عبيد، يترع القطر فيمتلك الدائرة!
شربل بعيني يلهث فتتفجّر البراكين!
شربل بعيني يتأوّه فتسمع للريح عويلاً!
شربل بعيني يحب فتختلط الملائك بالشياطين!
فتصوّروا كم كان موريس عبيد سنة 1986 يؤمن بمعجزات شربل بعيني وكم تغيّر في العام 2000.. فبربكم هل قال أحد لجبران أو لنعيمة مثل هذا الكلام؟.
أخيراً، يقول موريس: "إذا اكتأب شربل بعيني تساقطت مواسم الأعياد كأوراق أيلول، وتلوّت السوّاقي وجعاً وأنيناً". وصدّقوني أنني مكتئب أشد الاكتئاب لأنني دافعت عن كلام جميل وصلني على حين غرّة من المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافيّة في العالـم، بكلام أجمل منه كتبه عنّي عام 1986 صديق دخلت بيته، وأكلت زاده، وعزّاني بموتاي، وعزّيته بموتاه، وكان اسمه موريس عبيد.
أما ما قاله موريس بشأن الكتب والجوائز والأوسمة، فلن أرد عليه، لأنه لـم ينشر كتاباً بعد، ولـم يحصل على (تنكة) واحدة نقدر أن نزرّك له بها. عسى الأيّام تعوّض هذا النقص الفادح من تقدير (اصغر رئيس جمعية) له.
ولكنني سألفته إلى أن الشاعر الذي ألقى المادة الشعريّة بين الدجاج، حسب تعبيره، لتبعثرها دواجن الشعر فوق المزابل، هو ذاته شربل بعيني الذي "لا يخاف الكلمة، بل يعجنها ويصقلها لتأتي طوّاعة بين يديه، فيسخّرها لغايته التي هي غاية الشعر في النتيجة" حسب تعبيره أيضاً، في مقدمة رباعيات.
لقد مدحت شربل بعيني كثيراً في تلك المقدّمة يا موريس، فكيف تناسيتها، وكيف تجرأت على إلغائها، وهل يعقل، بعد كل هذه السنوات المرهقة بالإنتاج، أن نتراجع إلى الوراء أم أن نلتقط المجد. أنا التقطته يا موريس، فأين أنت من المجد، ما دمت تجر أدبنا المهجري إلى الوراء، إلى المزابل، إلى دجاج الشعر الذي يبول كل يوم على أجنحة نسور الشعر؟! وتناسيت، كما تناسيت مقدمة رباعيات، أنك قلت: "إتقوا اللـه، إتّقوا الذوق والجمال، إتقوا القارىء، لأن للكلمة حرمة". فأين حرمة الكلمة وأنت تمرّغ جبينها وجبين أدبنا المهجري، إثر كل خبر سار يصلنا من الخارج، بين المزابل وبين بول دجاجاتها! إتقِ اللـه يا موريس، لأن انفصام شخصيتك الأدبية ظاهر للعيان، وما عليك سوى المقارنة بين موريس الأمس وموريس اليوم.
هناك إجابية واحدة في مقال موريس التهجمي الأخير، إذ أنه وافق على لقبي الجديد (أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الانتشار اللبناني لعام 2000)، ولـم يتهجّم عليه، وكيف يتهجّم عليه؟ وهو من لقّبني به عام 1986، عندما قال عني في مقدمة رباعيات: "ينام شربل وفي عينه قافية، ويفيق وفي بؤبؤ الثانية رباعية. إنه المتأرّق دائماً وأبداً، ينام ولا يرتاح. إنه إبن الشعر، إنه إبن الأرق".
شربل بعيني، بنظر موريس عبيد، إبن الشعر. أي أنه وريثه الأول والأخير، وبما أن الشعر هو سيّد الفنون الأدبية، وبما أن للأدب إمارة، فسيكون شربل بعيني أوّل من يتوّج عليها، وهذا ما حصل فعلاً.. وهذا ما ستفتخر به الجالية اللبنانية في أستراليا، إذ أنها أعطت للأدب، في عالـم الإنتشار اللبناني، أوّل أمير. فلنبتهج ولنعمل معاً من أجل تتويج أمير جديد من مغتربنا هذا كي لا تضيع الإمارة من أيدينا كما ضاعت بلادنا، ونندم ساعة لا ينفع الندم.
ثانياً: مرّوسي.. وإمارة قلّة الأدب
عيب أن ينحدر مستوانا الإعلامي إلى هذا الدرك المخجل، وأن نجبر على الرد على من يتهجم علينا، بأسلوب نرفضه، بعد أن رفض ردّنا الأول عليه بأسلوب أدبي راقٍ، وعاد إلى لغة المراحيض والبول والمزابل التي لا يتقن غيرها.. هذه اللغة التي يرفضها القارىء المثقّف ويدينها في آن معاً. وكنت أتمنى على صديقي موريس عبيد أن يجيبني بنفس الأسلوب الراقي، حتى نبتعد قدر الإمكان عن المهاترات والإتهامات السوقيّة الرخيصة، التي تسيء إلى صاحبها قبل أن تسيء إلى الآخرين.
وصدّقوني أنني لعنت الأدب والصحافة والصداقة والذوق والإنسانيّة وأنا أكتب ردّي هذا، على من كنت أعتبره (صديقي). فبئس الزمن زمن يخلع فيه الإنسان وجه ربّه، ليتقنّع بوجه شيطان رجيم. وإليكم الردّ:
عاد العنكبوت الصغير (مرّوسي) إلى حياكة خيوطه الهزيلة، في غربة قرفت من وجوده، لاصطياد أمير أدبيّ أعطى الغربة دون منّة، إسمه (شربولي).
والأمير (شربولي)، شاء العُنيكب أم أبى، حصل على إمارة الأدب بعرق جبينه، فغار منه صديقه (مرّوسي) الّذي ادّعى أنه كان يصحّح أشعار الأمير في بيته الفخ، الّذي دخله (شربولي) رافع الجبين، وخرج منه وهو يجرّ أذيال خيبته. فالبيت ليس بيتاً لبنانياً صميماً، كما كان يعتقد، قيمته بضيافته، ونبراسه احترام من يدخله. فلقد كان فخّاً لاصطياد الأبرياء، والتشهير بهم.. إذ أن من عادة (شربولي) أن يناقش أعماله الأدبيّة قبل نشرها، وأن يقلّبها على جميع جهاتها، وعندما استمع إلى بعض آراء (مرّوسي)، كما استمع، من قبل، إلى مئات الآراء، لـم يكن يعلـم أن هذا الأخير، يعاني من عقدة الأستذة، بعد أن أفنى عمره في الحراسة. ولو كان يعرف نوايا العنيكب الخبيثة، لما زاره، ولما ناقشه، ولما احترم رأيه. فالأخوان رحباني كانا يستعينان بسعيد عقل لمناقشة أعمالهما، أما أنا فأوقعتني غربتي بين يدي سعيد بلا عقل. فقولوا أللـه..
(مرّوسي)، يعترف أن (شربولي) أمير، ولهذا أقسّم أن لا ينام قبل أن يعيده إلى حجمه الحقيقي، فانفتق كرشه وهو يحاول الإنقلاب على الحقّ، ولكنه فشل أشد الفشل، وبقي، من أتته الإمارة، أميراً، لأنه جدير بها، رغـم تواضعه وامتناعه عن استعمال اللقب إلاّ عند النكايات، كونه يؤمن بقول جبران: "ليست قيمة الإنسان بما يبلغ إليه، بل بما يتوق للبلوغ إليه". و(شربولي) يؤمن بخطّه الأدبي، وأن الصغار لا يتطاولون إلاّ على الكبار، وأن (مرّوسي) يمثّل دور الضفادع التي تكلّم عنها جبران حين قال: "قد يكون للضفادع أصوات أعلى من أصوات البقر، ولكنّ الضفادع لا تستطيع أن تجرّ السّكّة في الحقل، ولا أن تدير دولاب المعصرة، ولا يمكنك أن تصنع من جلودها أحذية".
حلم (مرّوسي) الوحيد أن يصبح أستاذ الجالية، وعندما فشل أصبح (شتّامها)، ففرح بلقب (شتّام) أشد الفرح، كيف لا، وهو الّذي يفتّش عن الألقاب، التي لـم يغدقها عليه أحد، والحمد للـه، وراح يحلم بمن يهدّده بالموت، ليصبح بطلاً قومياً، بعد أن نبذه بنو قومه، ففتّش عن الرجال في جاليته، فوجدهم منهمكين بأعمالهم، ولا وقت عندهم لتهديده، فجنّ جنونه، لأنه يريد أن يستدر العطف، وأن يصبح (سلمان رشدي) الجالية، فما كان منه إلاّ أن اتّهم الأمير (شربولي) بتحريض بعض النسوة لشتمه عبر الهاتف، ولتهديده بسفك دمه!!. فهل من سخافة أشد من هذه السخافة، وهل من اتهام باطل يطاله القانون الأسترالي أكثر من هذا الاتهام. لا واللـه.
العديد من محبّي أدب (شربولي) طالبوه بإقامة دعوى قضائيّة تنقذ الجالية من أفخاخ هذا العنكبوت المريض، وتضع له حدّاً، ولكن الأمير (شربولي) رفض هذا الطرح بتاتاً، وردد قول المطران المرحوم عبده خليفة: "الكلاب تنبح دائماً على العظماء، أفلا يحق لي بجروٍ صغير".
العنكبوت الصغير (مرّوسي) لا يريد أن يفقّس كتباً توصله إلى المجد كالأمير (شربولي)، لأنه يخاف على عبقريته من ضربة شمس، فتركها تنتن، وراح يشتم "الذين شرشحوا قدسيّة الكلمة وعهّروا الأدب"، وتناسى، لانفصام شخصيته الأدبيّة، أنّه كان من أوائل الذين كتبوا مقدّمات الكتب "التي تضجّرت منها رفوف المكتبات". ولكي لا يفوته قطار (الشهرة) في هذا المهجر التعيس، عمل كذاك الذي كسر مزراب العين، وبدلاً من أن يترحمّوا عليه، لعنوا ساعة مولده.
(مرّوسي) الصغير، دائماً على حق، فإذا قال لك: أنا أشتم الشتّامين. قل له: آمين. وإذا قال لك: أَنا أكثر المحسودين. قل له أيضاً: آمين. أما إذا قال لك: أنا أصدق الصادقين. فاحمل أمتعتك واهرب إلى مهجر آخر. لأنك إذا عارضته، ستتعرّض لرذاذ لعابه، وسيتهمك بتقليب الناس عليه، وبإرسال النساء الجميلات لاغتياله.
أمّا إذا أردت أن تردّ عليه بأسلوب راقٍ ومقنع، لأنّك تكره المهاترات، كونك لـم تولد لها كما ولدته أمّه، فلسوف يردّ عليك بكل ما تجود به المراحيض، والمزابل، وبول الدجاج وجنون البقر. هو هكذا، فإيّاك أن تغيّره. رجلاه أطلتا قبل رأسه، ولهذا نادراً ما يستعمله.
يتهمني العُنيكب بالترحل إلى أصدقاء لي في مجاهل الأرض للحصول على لقب (أمير)، ويتناسى كعادته، أن قريبـي جو بعيني كان رئيساً أعلى للجامعة الثقافيّة في أستراليا، وأن قريبـي الثاني كلارك بعيني ما زال أمين سرّ الجامعة الثقافيّة في مالبورن، ومع ذلك لـم أدنّس شرفي الأدبي بسؤال أحدهما عن خدمة صغيرة، فكم بالأحرى، (صك إمارة) لا يحصل عليه إلاّ من يعرفه العظماء من (ألفه إلى يائه)، حتّى لا يتبدّل كالحرباء، كما يتبدّل هو في كل لحظة.
لماذا لا يسأل (مرّوسي) الصغير، رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ كامل المرّ، إذا كان (شربولي) قد طلب منه (جائزة جبران)؟.
لماذا لا يسأل السفير جان ألفا، قنصل لبنان العام الأسبق في سيدني، إذا كان (شربولي) قد طلب منه (جائزة الأرز الأدبيّة)؟..
ولماذا لا يسأل كل الذين منحوا (شربولي) جوائزهم التقديرية وكرّموه في لبنان وأستراليا وباقي المهاجر، إذا كان (شربولي) قد طلب منهم ذلك؟
لماذا لا يسأل الأديب السوري محمد زهير الباشا، وكامل المر، وكلارك بعيني، ومي طبّاع، ونجوى عاصي، وأحمد حمّود، وغيرهم.. إذا كان (شربولي) قد طلب منهم أن يكتبوا كتبهم عنه؟
لماذا لا يسأل مئات الشعراء والأدباء الذين أحبّوا شعر (شربولي) وكتبوا عنه آلاف القصائد والمقالات.. إذا كان قد طلب منهم ذلك؟..
ما من أديب أو شاعر، إلاّ ومجّد شعر وأدب شربل بعيني، ولكن ولا واحد منهم تنكّر لكلماته كما تنكّر (مرّوسي) بسبب انفصام شخصيّته الأدبيّة.
(مرّوسي) يريد أن يستفتي بعض الأدباء المطرودين من إمارة (شربولي) بسبب تذبذبهم ووصوليتهم وكذبهم ونفاقهم وتعاليهم ودسائسهم، لينطبق عليه وعليهم المثل القائل: من مثلنا فليأت لعندنا. وشرطه الوحيد أن "لا تتدخل الجحافل التي تحيط بك وتهدّد بسفك دم سلمان رشدي الجديد".. أللهم إشهد.
أتفهم، يا (مرّوسي) ما معنى هذا الكلام؟ أم تريدني أن أفهّمك معناه بطريقة قانونية، قد تجعلك مسخرة الأجيال، وتجبرك على الإعتذار الفوري من (شربولي).. لقد عرضت كلامك على محامٍ يقرأ ويفهم العربيّة، كي لا أترجمه له، ولكي تفهم ما قال، إذهب إلى محاميك واعرض عليه كلامك، لتدرك مدى قساوته ولؤمه..
(شربولي) كما يحلو (لمرّوسي) أن يناديني، لا يهدد أحداً، ولا يتوّعد أحداً، ولا يسفك دم أحد.. لأنه لـم يدخل الأحزاب، ولـم يشجّع الميلشيات، ولـم يتهجّم على أحد.. أمّا إذا كنت تختلق القصص كي تنال منّي، وترسل لي من يربّيني، على طريقة ضربني وبكى، سبقني واشتكى، فلقد أوقعت نفسك بين يديّ من حيث لا تدري. أمّا إذا كنت صادقاً بما تقول، وأنهم شتموك، وهددوك، وتوعّدوك.. ففتِّش عن أصدقائك، أولئك الذين يمدحونك إثر كل تهجّم، ويتصلّون سراً بأصحابهم وصاحباتهم ليهدّدوك، كما ادّعيت، ويرفعوا ضغطك. أو أنّك، وهذا ما يتهامس به العديد من أبناء الجالية، تهجّمت على العديد من الشرفاء، وأصبح أعداؤك أكثر من شعيرات شواربك.. وأنت تعرف ذلك.. وكلنا يعرف ذلك. فصحّح مسلكك مع الآخرين، وتوقّف عن اتهام الأبرياء مثلي، كي لا تعرّض نفسك لملاحقة القانون والضمير.
هناك إمارة واحدة تليق بك، بعد كل هذا التهجّم، والإتهامات الكاذبة، إنها (إمارة قلّة الأدب).. فألف مبروك يا صديقي الأمير!!
ولم يكن موريس عبيد الوحيد الذي هاجمني، ولكنني سأكتفي بما ذكرت، لأنه ليس بحاجة الى شهرة، فهو مشهور حقاً، أما الأخرون فلقد كتبوا ما كتبوا بحثاً عن الشهرة، لذلك لن أذكرهم، بل سأرميهم خارج حياتي.
بقي أن أذكر أن اتحاد جمعيات السانت جورج قد كرّمني بمناسبة منحي لقب أمير الشعراء في بلاد الانتشار، بحفل أدبي وشعبي حاشد، وهذا ما لن أنساه طوال حياتي.
**
فوبيا طب الاسنان
الفوبيا هي الخوف من شيء محدد، منهم من يخاف من الأماكن المغلقة، كغرفة المصعد مثلاً، وكثيراً ما نرى هذا في المسلسلات التلفزيونية.
ومنهم من يخاف من الاماكن المرتفعة، لدرجة أن لا أحد من أصحاب هذه الفوبيا يشتري شقة في بناية عالية، لأنه من غير الممكن، لا بل المستحيل، أن يجلس على شرفتها.
والأغرب من هذا كله، هو خوف البعض من الصراصير، التي لا تؤذي، لا بل تخاف من الانسان أكثر من خوف الانسان منها، لدرجة أصبحت معها فوبيا الصراصير الأكثر انتشاراً في العالم.
وإن أنسى لا أنسى، يوم كنت ذاهباً الى الحمام في سوق "باراماتا" التجاري، فإذا بامرأة تخرج من حمام النساء وهي تصرخ:
ـ صرصور.. صرصور.. أرجوك اقتله.
وقد نسيت من شدة الخوف أن ترتدي ثيابها الداخلية.
ومنهم من يخاف من إبرة البنج، وآلة "الخر بر" عند طبيب الاسنان، وأنا واحد من هؤلاء وللأسف.
وأذكر يوم آلمني ضرسي لدرجة لا تطاق، في العام الثاني لوصولي الى سيدني، أي 1972، وكان هناك طبيب أسنان لبناني واحد يتكلم العربية في ذلك الوقت، يعيش في منطقة "هاريس بارك"، فقرر أخي وامرأة أخي جورج وأنطونيت أن يأخذاني الى عيادته، وما أن دخلت حتى قال:
ـ شو القصة.. هيئتك موجوع؟
ولم أجب من شدة الألم، فأجلسني على كرسي خاص، وبدأ يتفحص أسناني، وفجأة سحب من على الطاولة إبرة بنج مخيفة، وسألني:
ـ أي ضرس تريدني أن أقبع؟
ـ لا أريد أن تخلعه، بل أن تحشيه لو سمحت.
ـ طيب.. إفتح فمك ودلني عليه..
وضعت إصبعي على الضرس الموجوع، ومن دون أن ينظر إليه خرج ليكلم أحد المرضى، وعندما عاد حمل كماشة وقال:
ـ سأريحك منه.. إفتح فمك.
ومن شدة خوفي وألمي فتحت فمي، وأنا على يقين من أنه سيزيل الضرس المنخور، ولكنه وضع الكماشة على ضرس أخر وقال:
ـ سأقبعه الآن..
ـ توقف.. أنت تخلع الضرس السليم وبدون بنج..
ـ هذا شغلي.. إفتح فمك..
وبسبب طيبة قلبي امتثلت لأوامره وفتحت فمي، اعتقاداً مني أنه يمازحني، ولكن ما ان شد على الضرس السليم مرة أخرى، حتى جن جنوني، فصرخت صرخة مجلجلة، أخافت كل من في العيادة، ودفعته عني بقوة، وخرجت من عيادته وأنا أركض، ويركض خلفي الجميع، وهم يسألونني بخوف شديد:
ـ ما بك؟ ماذا حدث؟
ـ هذا ليس طبيباً.. هذا حمار.
والله يشهد على ما أقول، وأعتقد أن أخي جورج قد ينسى اسمه ولن ينسى هذه الحادثة على الاطلاق، لأنه دائماً ما يخبرني إياها وهو يقهقه عالياً، ومن ذلك الوقت وأنا أرتعب عند ذكر اسم اي طبيب أسنان، إلى أن التقيت بأخي وصديقي الدكتور علي بزي، فأنقذني من هذه الفوبيا المزعجة، بلطافته، ودعابته، إذ ما أن تدخل عيادته حتى يسمعك أجمل النكات، فتنسى إبرة البنج "والخر بر"، وتسلمه فمك، ليتلاعب على كيفه بأسنانك، وأنت مسرور للغاية.
لولاه، والحقيقة أقول، لاستعملت طرق الاجداد القديمة في التخلص من الاسنان المنخورة، حيث لا أطباء ولا عيادات في قرانا الجبلية، كي لا أرى إبرة البنج، أو أن أسمع خرير "الخر بر" وهو يدخل الى فمي.
ولكي أكون صادقاً أمام التاريخ وأمامكم، أعترف بأنني فتحت فمي مجبراً من شدة الألم، قبل معرفتي بالدكتور بزّي، في عيادة تلميذتي الدكتورة سامية، وقصتي بلقائي المفاجىء والمفرح بها، مدرجة في فصل "أريد قبلة".
بعد سنوات أقفل طبيب الفوبيا عيادته في منطقة "هاريس بارك"، فرحت أسأل عنه، لا لشيء سوى لأطمئن على صحة باقي المرضى، فأخبرني أحدهم انه يمارس المهنة في بيته، ولا يستقبل الا الاهل والاصدقاء اللبنانيين فقط.
**
النهاية
والآن، آن الآوان كي أنهي ما تراكم في ذاكرتي من أحداث حفظت بعضها ونسيت الكثير منها، وأرجو أن أكون قد وفقت، لأن قراءة قصص حياة الآخرين مضجرة للغاية، فكم بالحري رحلة شاعر مهجري من القلم إلى الالم.
لست خائفاً من المستقبل، فالعمر سينتهي، وهذه سنة الحياة، ولكنني أقسمت أن أرحل والابتسامة على ثغري، تماما كما رحل إخوتي من قبلي، فلقد داسوا على الموت بابتسامتهم وإيمانهم الغامر.
عام 2016، في العشرين من شهر كانون الثاني، توفي أخي مرسال، وقبل أن يفارق الحياة، سمعته يقول: إني أرى أمي برفقة القديس شربل، وابتسم لهما، وأسلم الروح.
لقد كان طفل العائلة، الآصغر بين إخوته، الذي رافق والديه أثناء هروبهما من قريتهما مجدليا الى قبرص عن طريق البحر، أي بالمركب، وكان الأول الذي التقى بهما في الملكوت السماوي.
وعام 2023، في الرابع والعشرين من تشرين الاول، وفي عيد ميلاده السبعين، رحل أخي ميشال عن هذه الدنيا، وهو يوزع الأدوار علينا، أنت وأنت وأنت ستحملون نعشي، ولم يختر أخي جوزاف ليحمل مع الآخرين، خوفاً على صحته، أما أنا فأمرني أن أرثيه بقصيدة، كان يوزع الادوار وهو يضحك، رغم معرفته بأنه سيموت بعد ساعات.
كنت أتطلع به، ولسان حالي يردد:
ـ لماذا يخاف أخي من الموت، وهو المؤمن الذي لم يرتكب خطيئة، بل كان الوالد المحب، والاخ الحنون، والصديق الوفي؟.
وبعد سبعة أشهر فقط من وفاته، أي في الأول من حزيران عام 2024، توفي أخي أنطوان وهو يردد إسم العذراء مريم مراراً وتكراراً، وكنت كلما تطلعت به أرى هالة من نور تضيء وجهه.
أما أمي، فلقد جاءتها النوبة القلبية القاتلة في سيارتي، ومع ذلك كانت تترضى علينا جميعاً، وتطلب مني أن أجمع العائلة كبيت واحد، مهما كبرت وتوزعت، تماماً كما كانت تجمعها هي في غياب الوالد.
سرطان الدم الذي عاني منه والدي طويلاً، ساعد، كما أخبرنا البروفسور الذي أشرف على معالجته، بإيجاد العلاج لهذا المرض الخبيث، فلقد قال:
ـ كما تعلمون، وبموافقتكم أنتم، كنا نخضع والدكم لفحوصات وتجارب عديدة، وموجعة كثيراً، ومع ذلك لم يتأفف، ولم يشعر بأي بألم، وهذا ما كان يحيرنا، لا بل كان يدهشنا كأطباء.
وعندما علم هذا البروفسور أن والدي يفارق الحياة، ترك كل أشغاله، وجاء ليكون معنا في هذه اللحظة الأليمة، وكم كانت دهشتنا عظيمة عندما نخ وقبل يده.
المونسنيور يوسف توما كان معنا أيضاً، وبعد أن مشحه المشحة الاخيرة، سمعنا والدي يقول:
ـ يا سيدة مجدليا اشلحي ثوبك الازق علي..
هذه كانت آخر عبارة تلفظ بها، هنا بدأ العويل والبكاء، فصاح المونسنيور:
ـ لماذا تبكون، والدكم قديس، لا يجوز البكاء عليه. عندما كنت آتي لأمنحه سر القربان المقدس، كنت أجده غائباً عن الوعي تماماً، وما أن أرفع القربان فوق رأسه، حتى يستيقظ للحظات، ويتناول القربان، ويعود إلى غيبوبته، وهذا ما كان يحدث كلما زرته، لذلك توقفوا عن البكاء واطلبوا شفاعته.
وها أنا اليوم أجر ورائي سنوات طويلة، وهبني إياها الرب، قررت أن أعيشها برضاه وطاعته ومحبته، وأنا على يقين من أنه سيغفر لي ذلات ارتكبتها عن غير قصد، في زحمة الحياة، وأعتذر من كل إنسان لم يفهمني ولم أفهمه، وابتعدت مجبراً عنه، كي لا أسبب له الازعاج، وفي نفس الوقت أشكر كل الذين زيّنوا حياتي بالكلمة والمحبة، حماهم الله أينما كانوا.
أما الذين تطاولوا علي، واتهموني بذنوب لم ولن أرتكبها، فلهم أطلب الرحمة والمغفرة، تيمناً بالصلاة التي علمنا إياها السيد المسيح:
ـ اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا، ولا تدخلنا في التجارب لكن نجنا من الشرير آمين.
وكما ذكرت سابقاً، فلقد بدأت الكتابة بعمر 9 سنوات، وأكملت طريقي رغم المطبات والاوجاع الكثيرة، لذلك من واجبي أن أتوجه الى الجيل الصاعد أن يمارسوا الكتابة، وأن يعبروا عن آرائهم دون خوف من أحد، وأن يبتعدوا عن التفاهات الدنيوية، ويغرقوا أنفسهم في محيطات القراءة اللامتناهية، فالكتاب، كما قيل، سيظل خير جليس على مر الدهور.
قبري، في مقبرة "روكوود" رقمه 266، في القسم الماروني التابع للكاثوليك، وبقربي على الرقم 265، يرقد أغلى اثنين على قلبي: أبي وأمي، لذلك لن أشعر ببرودة القبر، وكيف أشعر بها وهما يرقدان الى جانبي.
والآن، سأنتظر الرحيل وكلي إيمان، بأن من فعل الصالحات لن يغلبه الموت. أوَلست أنا القائل في ديوان "رباعيات":
الموت لذه وإنتصار وكبريا
وتكسير رقبة هالدني الـ نحنا فِيا
وتخليص أنفسنا على طول المدى
من هالخطايا الـ كل لحظه منخطيا
سأنتظر.. وسأبتسم.. وسأنتصر بإذن الله.
**